الشافعيّ بين المسجد الحرام وغيره فمنع من الأوّل، وجوّز في الثاني بشرط إذن المسلم والحاجة، وغلّظ ورش اللام من أظلم بعد الظاء ﴿لهم في الدنيا خزي﴾ أي: هوان بالقتل والسبي والجزية ﴿ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ بكفرهم وظلمهم وهو النار.
ونزل لما عيرت اليهود المؤمنين في نسخ القبلة وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هذا وتارة هذا كما قاله عكرمة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت به راحلته كما قاله ابن عمر.
﴿ولله المشرق والمغرب﴾ أي: ناحيتا الأرض أي: له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام والأقصى فقد جعلت لكم الأرض كلها مسجداً ﴿فأينما تولوا﴾ وجوهكم أيّ جهة وهو الصدر في الصلاة ﴿فثم﴾ أي: هناك ﴿وجه الله﴾ أي: قبلته كما قاله مجاهد، وقال الكلبيّ: فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ (القصص، ٨٨) أي: إلا هو ﴿إن الله واسع﴾ أي: غنيّ يعطي من السعة يسع فضله كلّ شيء ﴿عليم﴾ بتدبير خلقه.
ونزل لما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله.
﴿وقالوا اتخذ الله ولداً﴾ فقال الله تعالى ردّاً عليهم: ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء وقرأ ابن عامر قالوا: بغير واو قبل القاف والباقون بالواو وقبل القاف ﴿بل له ما في السموات والأرض﴾ ملكاً وخلقاً ومن جملة ذلك العزير والمسيح والملائكة والملكية تنافي الولدية وعبر بما تغليباً لما لا يعقل لكثرته ﴿كلّ له قانتون﴾ أي: منقادون كلّ بما يراد منه لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وفي ذلك تغليب للعاقل لشرفه والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه الأول: قوله: سبحانه والثاني: قوله: بل له ما في السموات والأرض والثالث: كل له قانتون واحتج بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه؛ لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما.
﴿بديع السموات والأرض﴾ أي: موجدهما لا على مثال سبق وهذا وجه رابع يشعر بفساد ما قالوه أيضاً؛ لأنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه عن الصفات فلا يكون والداً ﴿وإذا قضى أمراً﴾ أي: أراد إيجاد شيء وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً كان كقوله تعالى: ﴿وقضى ربك﴾ (الإسراء، ٢٣) أو فعلاً كقوله تعالى: ﴿فقضاهنّ سبع سموات﴾ (فصلت، ١٢) وأطلق على تعليق الارادة الإلهية وجود الشيء من حيث أنه يوجبه ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ وهذا مجاز من الكلام وتمثيل وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء، وفيه تقرير لمعنى الإبداع دائماً وهذا وجه خامس يشعر بفساد ما قالوه أيضاً؛ لأن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة وفعله تعالى مستغن عن ذلك، وقرأ ابن عامر بنصب النون: من يكون جواباً للأمر والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.
فإن قيل: المعدوم لا يخاطب أجيب: بأنه لما قدّر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فُصحّ خطابه.
﴿وقال الذين لا يعلمون﴾ للنبيّ ﷺ وهم اليهود كما قاله ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد أو مشركو العرب كما قاله
لكبراء المشركين اسألوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها، والتقدير أنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآناً عربياً، وسمي بعض القرآن قرآناً؛ لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض ﴿لعلكم﴾ يا أهل مكة ﴿تعقلون﴾، أي: إرادة أن تفهموا أو تحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم ﴿ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته﴾ (يوسف، ٤٤). واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فقال أبو عبيدة: من زعم أنّ في القرآن لساناً غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية ﴿إنا أنزلناه قرآناً عربياً﴾ وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن.
﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾، أي: أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضاً، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والمعنى: أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم: يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها ﴿بما﴾، أي: بسبب ما ﴿أوحينا﴾، أي: بإيحائنا ﴿إليك﴾ يا محمد ﴿هذا القرآن﴾ الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله ﴿وإن كنت من قبله﴾، أي: إيحائنا إليك أو هذا القرآن ﴿لمن الغافلين﴾، أي: عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه ﷺ إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وقوله تعالى:
﴿إذ قال يوسف لأبيه﴾ بدل من ﴿أحسن القصص﴾ أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل: عربي، وردّ بأنه لو كان عربياً لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» وقوله ﴿يا أبت﴾ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون ﴿إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمسم والقمر﴾ قال أهل التفسير: رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: سبع سنين
قيل إنه السامريّ والقبطي طباخ فرعون فكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس لما بلغ موسى أشدّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل غزُّواً لمكان موسى لكونه ربيب الملك مع أن مرضعته منهم لا يظنون أن سبب ذلك إلا الإرضاع ﴿فاستغاثه﴾ أي: طلب منه ﴿الذي من شيعته﴾ أن يغيثه ﴿على الذي من عدوّه﴾ فغضب موسى عليه السلام واشتدّ غضبه وقال للفرعوني خل سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى عليه السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في القوّة والبطش ﴿فوكزه موسى﴾ أي: دفعه بجمع كفه، والفرق بين الوكز واللكز: أنّ الأوّل: بجمع الكف والثاني: بأطراف الأصابع، وقيل: بالعكس، وقيل اللكز في الصدر والوكز في الظهر ﴿فقضى﴾ أي: فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة وهو الموت الذي لا ينجو منه مخلوق ﴿عليه﴾ فقتله وفرغ منه، وكل شيء فرغت منه
فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة فلم يشعر به أحد فندم موسى عليه السلام عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل.
﴿قال هذا﴾ أي: قتله ﴿من عمل الشيطان﴾ أي: لأني لم أومر به على الخصوص ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً حربياً، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه بقوله ﴿إنه عدوّ﴾ فينبغي الحذر منه ﴿مضلّ﴾ لا يقود إلى خير أصلاً ﴿مبين﴾ أي: عداوته وإضلاله في غاية البيان ما في شيء منهما خفاء ولما لم يكن في قتله إلا الندم لعدم إذن خاص.
﴿قال رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿إني ظلمت نفسي﴾ أي: بالإقدام على ما لم تأمرني به بالخصوص وإن كان مباحاً ﴿فاغفر لي﴾ أي: امحُ هذه الهفوة عينها وأثرها ﴿لي﴾ أي: لأجلي لا تؤاخذني ﴿فغفر﴾ أي: أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ﴿له إنه هو﴾ أي: وحده ﴿الغفور﴾ أي: البالغ في صفة الستر لكل من يريد ﴿الرحيم﴾ أي: العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية ولأجل أن هذه صفته ردّه إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجا منهم قبل إرساله على غير قياس، ثم شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه بأن.
﴿قال رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿بما أنعمت عليّ﴾ أي: بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة ﴿فلن أكون﴾ أي: إن عصمتني ﴿ظهيراً﴾ أي: عوناً وعشيراً وخليطاً ﴿للمجرمين﴾ قال ابن عباس: للكافرين وهو إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكسيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤل مظاهرته إلى الجرم والإثم كما في مظاهرة الإسرائيلي المؤدّية إلى القتل الذي لم يؤمر به وهذا نحو قوله تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ (هود: ١١٣)
وعن عطاء أن رجلاً قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه قال فمن الرأس يعني من يكتب له قال خالد بن عبد الله القسري قال فأين قول موسى وتلا هذه الآية.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه
المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة﴾ (الحشر: ٢٠)
ويحتمل أن يكون المراد التعميم وهذا أظهر. وقوله تعالى لجهنم أي التي هي دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم ﴿هل امتلأت﴾ استفهام تحقيق لوعده عليها وهو قوله تعالى ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود: ١١٩)
﴿وتقول﴾ بصورة الاستفهام كالسؤال ﴿هل من مزيد﴾ أي: قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكار. وقيل بمعنى الاستزادة رواه أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله تعالى هل امتلأت قبل دخول جميع أهلها فيها.
وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما «أنّ الله تعالى سبقت كلمته لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت فتقول هل من مزيد قط قط قد امتلأت وليس فيّ مزيد» وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله ﷺ قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش وفي رواية رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعد ذلك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله تعالى لها خلقاً فيسكنهم فضول الجنة» ولأبي هريرة رضى الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحداً.
تنبيه: هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان:
أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنىً يليق بها وظاهرها غير مراد.
المذهب الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل: يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها.
قال المتكلمون: ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار اتبعها دار الأبرار.
فقال تعالى سارّاً لهم بإسقاط مؤنة المسير وطي مشقة البعد.
﴿وأزلفت الجنة﴾ أي: قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ﴿للمتقين﴾ أي: الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى: ﴿غير بعيد﴾ يجوز أن يكون حالاً من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلاً لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى: ﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ (الأعراف: ٥٦)
ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني أي مكاناً غير بعيد ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف


الصفحة التالية
Icon