هم الخاسرون} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. ولما صدر قصة بني إسرائيل بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأحوالها في قوله تعالى: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي﴾ (البقرة، ٤٠) إلخ.. كرر ذلك بقوله تعالى: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين﴾ أي: عالمي زمانهم. ﴿واتقوا﴾ أي: خافوا ﴿يوماً لا تجزى﴾ أي: لا تغني ﴿نفس عن نفس﴾ فيه ﴿شيئاً ولا يقبل منها عدل﴾ أي: فداء ﴿ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون﴾ أي: يمنعون من عذاب الله وختم بالمكرّر الكلام معهم مبالغة في النصح.
تنبيه: اتفق القراء على قراءة يقبل هنا بالياء على التذكير. ﴿و﴾ اذكر ﴿إذ ابتلى﴾ أي: اختبر ﴿إبراهيم ربّه بكلمات﴾ أي: بأوامر ونواه وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً. واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال عكرمة عن ابن عباس: هي ثلاثون من شرائع الإسلام: عشر في براءة ﴿التائبون العابدون﴾ (التوبة، ١١٢) إلخ.. وعشر في الأحزاب، ﴿إن المسلمين والمسلمات﴾ (الأحزاب، ٣٥) إلخ.. وعشر في المؤمنين إلى قوله: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ (المؤمنون، ٩) وفي سأل سائل إلى قوله تعالى: ﴿والذين هم بشهاداتهم قائمون﴾ (المعارج، ٣٣).
وقال طاووس عن ابن عباس: ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي: الفطرة خمس في الرأس أي الشامل للوجه قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، وفي الخبر: «أن إبراهيم أوّل من قص الشارب وأوّل من اختتن وأوّل من قلم الأظافر وأوّل من رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال: الوقار قال: «يا رب زدني وقاراً» وقال قتادة: هي مناسك الحج أي فرائضه وسننه كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ، وقال الحسن: ابتلاءه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أنّ ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها. وبالختان وبذبح ولده وبالهجرة فصبر عليها وقال مجاهد: هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى: ﴿إني جاعلك للناس إماماً﴾ إلى آخر القصة.
وقرأ ابن عامر إبراهام بفتح الهاء وألف بعدها جميع ما في هذه السورة وهي خمسة عشر حرفاً، وفي النساء ثلاثة أحرف وهي الأخيرة، وفي الأنعام الحرف الأخير، وفي التوبة الحرفان الأخيران، وفي إبراهيم حرف، وفي النحل حرفان، وفي مريم ثلاثة أحرف، وفي العنكبوت حرف، وفي الشورى حرف، وفي الذاريات حرف، وفي النجم حرف وفي الحديد، حرف، وفي الممتحنة الحرف الأوّل، فذلك ثلاثة وثلاثون حرفاً، وقرأ ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين.
وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك كان غير منصرف وهو ابن آزر كما في سورة الأنعام وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل: بابل وقيل: حران ولكن نقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان، والضمير في ربه لإبراهيم وحسن لتقدمه لفظاً وإن تأخر رتبة، لأنّ الشرط تقدمه لفظاً أو رتبة ﴿فأتمهنّ﴾ أي: أداهنّ تامات وقام بها حق القيام لقوله: ﴿وإبراهيم الذي وفى﴾ (النجم، ٣٧) ﴿قال إني جاعلك للناس إماماً﴾ يقتدى بك في الخير وجاعل من جعل الذي له مفعولان، والإمام اسم من يؤتم به وإمامة إبراهيم عامة مؤبدة؛ إذ لم يبعث من بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً
الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضرّه». وعن أبي رزين العقيلي أنّ رسول الله ﷺ قال: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوّة، وهي على رجل طائر ما لم يحدّث بها فإذا حدّث بها سقطت» قال: وأحسبه قال: «ولا يحدّث بها إلا لبيباً أو حبيباً» وإنما أضيفت الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيهما، ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها، فيستحب إذا رأى الشخص في منامه ما يحب أن يحدّث به من يحب، وإذا رأى ما يكره فلا يحدّث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها، وليتفل ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الآخر فإنها لا تضرّه، فإنّ الله تعالى جعل هذه الأسباب سبباً لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سبباً لوقاية المال. قال الحكماء: إنّ الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين، قالوا: والسبب فيه أن رحمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل، وأمّا الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدّماً على ظهوره بزمن طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حضور ذلك الخير أكثر وأتم، ولهذا لم تظهر رؤيا يوسف عليه السلام إلا بعد أربعين سنة، وهو قول أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة حتى اجتمع على أبويه وإخوته وخروا له ساجدين. ﴿وكذلك﴾، أي: وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس ﴿يجتبيك﴾، أي: يختارك ويصطفيك ﴿ربك﴾ بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله: ﴿ويعلمك﴾ كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك ﴿من﴾، أي: بعض ﴿تأويل الأحاديث﴾ من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين، وكان يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية، والتأويل ما تؤل إليه عاقبة الأمر ﴿ويتم نعمته عليك﴾ بالنبوّة.
قال ابن عباس: لأنّ منصب النبوّة، أي: ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب، وكل الخلق دون درجة الأنبياء، فهذا من تمام النعمة عليهم؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة، وقيل: يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى ﴿وعلى آل يعقوب﴾، أي: أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال: إني رأيت أحد عشر كوكباً وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضىء بعلمهم ودينهم أهل الأرض؛ لأنه لا شيء أضوأ
في مشيه فأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقاً آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له فقيل: ﴿قال﴾ منادياً لموسى تعطفاً وإزالة للبس ﴿يا موسى إنّ الملأ﴾ أي: أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿يأتمرون بك﴾ أي: يتشاورون في شأنك ﴿ليقتلوك﴾ حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاً منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿فاخرج﴾ أي: من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك ﴿إني لك من الناصحين﴾ أي: الغريقين في نصحك. ﴿فخرج﴾ أي: موسى عليه السلام مبادراً ﴿منها﴾ أي: المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه ﴿خائفاً﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿يترقب﴾ أي: يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن ﴿قال رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر ﴿نجني﴾ أي: خلصني ﴿من القوم الظالمين﴾ أي: الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جرياً على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم. ﴿ولما توجه﴾ أي: أقبل بوجهه قاصداً ﴿تلقاء﴾ أي: الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ﴿مدين﴾ قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة فهداه الله تعالى إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، وقيل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق، قال ابن اسحق: خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ﴿قال عسى﴾ أي: جدير وحقيق ﴿ربي﴾ أي: المحسن إليّ ﴿أن يهديني سواء﴾ أي: أعدل ووسط ﴿السبيل﴾ أي: الطريق الذي يطلعني الله تعالى عليها من غير اعوجاج وقال ذلك قبل أن يعرف الطريق إليها، قيل: فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين، قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، قال ابن عباس: وهو أوّل ابتلاء من الله تعالى لموسى عليه السلام ﴿ولما ورد﴾ أي: وصل ﴿ماء مدين﴾ وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم ﴿وجد عليه﴾ أي: الماء ﴿أمّة﴾ أي: جماعة كثيرة ﴿من الناس﴾ مختلفين ﴿يسقون﴾ أي: مواشيهم ﴿ووجد من دونهم﴾ أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم ﴿امرأتين﴾ عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما ﴿تذودان﴾ أي: تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر، وقال الحسن: تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل كانتا تذودان
لا ينجي الفرار منه والباء في ﴿بقلب﴾ إما للتعدية وإما للمصاحبة وإما للسببية، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: ﴿إذ جاء ربه بقلب سليم﴾ (الصافات: ٨٤)
من الشرك والضمير في قوله تعالى. ﴿ادخلوها﴾ عائد إلى الجنة وقوله تعالى: ﴿بسلام﴾ حال من فاعل ادخلوها أي سالمين من العذاب والهموم فهي حال مقارنة أو بسلام من الله تعالى وملائكته عليهم فهي حال مقدرة كقوله تعالى ﴿فادخلوها خالدين﴾ (الزمر: ٧٣)
كذا قيل. قال ابن عادل: وفيه نظر إذ لا مانع من مقارنة تسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول ﴿ذلك﴾ أي: اليوم الذي حصل فيه الدخول ﴿يوم الخلود﴾ أي: الدوام في الجنة الذي لا آخر له ولا نفاد لشيء من لذاته أصلاً ولذلك وصل به قوله تعالى جواباً لمن قال على أيّ وجه خلودهم. ﴿لهم﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿ما يشاؤون﴾ أي: تتجدد مشيئتهم أو يمكن مشيئتهم له ﴿فيها﴾ أي: الجنة ﴿ولدينا﴾ أي: عندنا من الأمور التي هي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً ﴿مزيد﴾ أي: مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن شياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب ﴿لدي﴾ يؤكد ذلك فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قال: ﴿ادخلوها بسلام﴾ على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب: من وجوه أولها: أن قوله تعالى: ﴿ادخلوها﴾ فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتاً.
ثانيها: أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور.
ثالثها: أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى: ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس: ٢٦)
ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر: وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد. ولما ذكر تعالى أوّ ل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية. بقوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿قبلهم من قرن﴾ أي: جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى: ﴿هم أشدّ منهم﴾ أي: من قريش ﴿بطشاً﴾ أي: قوّة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة.
تنبيه: كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى: ﴿فنقبوا﴾ عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا: ﴿في البلاد﴾ والضمير في نقبوا ما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة: