إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا ﴿وما أوتي موسى﴾ من التوراة ﴿و﴾ ما أوتي ﴿عيسى﴾ من الإنجيل.
فإن قيل: لم أفرد التوراة والإنجيل بحكم أبلغ وهو الإيتاء؛ لأنه أبلغ من الإنزال لكونه مقصوداً منه ولم يقل والأسباط وموسى وعيسى أجيب: بأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما فلهذا أفردا بالذكر ﴿وما أوتي﴾ أي: أعطى ﴿النبيون﴾ أي: المذكورون ﴿من ربهم﴾ من الكتب والآيات، وقرأ نافع بالهمزة، والباقون بالياء، ولورش في الهمز المدّ والتوسط والقصر ﴿لا نفرق بين أحد منهم﴾ كاليهود والنصارى فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بجميعهم.
فإن قيل: كيف صح إضافة بين إلى أحد وهو مفرد؟ أجيب: بأنه في معنى الجماعة وعلله السعد التفتازاني بأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال: ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب ﴿ونحن له﴾ أي: لله ﴿مسلمون﴾ أي: مذعنون أي: مخلصون.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية.
وقوله تعالى: ﴿فإن آمنوا﴾ أي: اليهود والنصارى ﴿بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا﴾ من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣) لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾ (آل عمران، ٨٥) وأمّا أن مثل صلة أي: آمنوا بما آمنتم به كقوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ (الشورى، ١١) أي: ليس كهو شيء وكما في قوله تعالى: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف، ١٠) أي: عليه وقيل: الباء صلة كما في قوله تعالى: ﴿وهزي إليك بجذع النخلة﴾ (مريم، ٢٥) وقيل: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا.
﴿وإن تولوا﴾ أي: أعرضوا عن الإيمان به ﴿فإنما هم في شقاق﴾ أي: في خلاف ومنازعه معكم يقال شاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد من المتخالفين يحرص على كل ما يشق على صاحبه ﴿فسيكفيكم الله﴾ يا محمد شقاقهم في ذلك تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر على من عاداهم وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وقوله تعالى: ﴿وهو السميع العليم﴾ إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة، وإمّا وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه ولا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً.
أي: دينه الذي فطر الناس عليه بظهور أثره على صاحبه كالصبغ للثوب أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية ويقولون هو تطهير لهم مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله وصبغَنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم، أو يقول المسلمون: صبغَنا الله بالإيمان صبغة ولا نصبغ صبغتكم وهو مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي: صبغنا الله تعالى وقيل: نصب على البدل من ملة إبراهيم وقيل: نصب على الإغراء ﴿ومن﴾ أي: لا أحد {أحسن
فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال: ﴿والله المستعان﴾، أي: المطلوب منه العون ﴿على ما تصفون﴾، أي: تذكرون من أمر يوسف، والمعنى أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: ﴿فصبر جميل﴾ يجري مجرى قوله: ﴿إياك نعبد﴾ (الفاتحة، ٤) وقوله: ﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ يجري مجرى قوله: ﴿وإياك نستعين﴾ (الفاتحة، ٥).
ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى:
﴿وجاءت سيارة﴾ وهم القوم المسافرون سموا بذلك؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران، أي: لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحاً فعذب حين ألقي يوسف فيه، فلما نزلوا أرسلوا رجلاً يقال له: مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى: ﴿فأرسلوا واردهم﴾، أي: الذي يريد الماء ليستقي منه، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء ﴿فأدلى﴾، أي: أرسل ﴿دلوه﴾ في البئر يقال: أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها، والدلو معروف والجمع الدلاء فلما أرسلها تعلق بالحبل يوسف عليه السلام فلما خرج فإذا هو بغلام أحسن ما يكون قال ﷺ «أعطي يوسف شطر الحسن». ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، وكانت جدّته قد أعطيت سدس الحسن قال ابن إسحاق: ذهب يوسف وأمّه بثلثي الحسن. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرّة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله وصوّره قبل أن يصيب الخطيئة، فلما رآه مالك بن ذعر ﴿قال يا بشرى هذا غلام﴾ نادى البشرى بشارة لنفسه، كأنّه قال تعالى فهذا أوانك.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى فقال: يا بشرى. وعن السدي أنّ المدلي نادى صاحبه وكان اسمه بشرى فقال: يا بشرى. كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي، فإنهم قرؤوا بحذف الياء بعد الألف، والباقون بإثبات الياء. وقيل: ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك. وروي أنّ جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها واختلف في ضمير ﴿وأسرّوه بضاعة﴾ إلى من يعود؟ وفيه قولان:
الأوّل: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه بالجب، وذلك أنهم قالوا: إن قلنا للسيارة: التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول: إنّ أهلاً لنا جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.
والثاني: ونقل عن ابن عباس أنه قال: وأسرّوه يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم فلم يجده في البئر فأخبر إخوته فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد لنا أبق منا وتابعهم يوسف على ذلك؛
وقوله تعالى ﴿في البقعة المباركة﴾ متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ومعنى المباركة جعلها الله تعالى مباركة لأنّ الله تعالى كلم موسى عليه السلام هناك وبعثه نبياً، وقال عطاء: يريد المقدسة وقوله تعالى: ﴿من الشجرة﴾ بدل من شاطئ الوادي بإعادة الجار بدل اشتمال لأنّ الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ، قال البقاعي: ولعلّ الشجرة كانت كبيرة فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع وهو فيها الكلام من الله تعالى حقيقة وهو المتكلم سبحانه وتعالى لا الشجرة.
قال القشيري: وحصل الإجماع على أنه عليه السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ: في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلاكمّ ولا كيف.
واختلف في الشجرة ما هي؟ فقال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عوسجة، وقال وهب: من العليق، وعن ابن عباس أنها العناب، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى: ﴿أن يا موسى﴾ فأَنْ هي مفسرة لا مخففة ﴿إنّي أنا الله﴾ أي: المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله ﴿رب العالمين﴾ أي: خالق الخلائق أجمعين ومربيهم، قال البيضاوي: هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى، وقال ابن عادل: واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل ﴿نودي أن بورك من في النار ومن حولها﴾ (النمل: ٨)
وقال ههنا ﴿إني أنا الله رب العالمين﴾ وقال في سورة طه ﴿إني أنا ربك﴾ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء، ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى:
﴿وأن ألق عصاك﴾ أي: لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة ﴿فلما رآها﴾ أي: العصا ﴿تهتز﴾ أي: تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها ﴿جانّ﴾ أي: حية صغيرة ﴿ولى مدبراً﴾ خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى ﴿ولم يعقب﴾ أي: موسى عليه السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له ﴿يا موسى أقبل﴾ أي: التفت وتقدّم إليها ﴿ولا تخف﴾ ثم أكد له الأمر لما الآدميُّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى: ﴿إنك من الآمنين﴾ أي: العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى:
﴿اسلك﴾ أي: ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة ﴿يدك في جيبك﴾ أي: القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ ﴿تخرج بيضاء﴾ بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات ﴿من غير سوء﴾ أي: عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر تنبيه: قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها: ﴿واضمم يدك إلى جناحك﴾ (طه: ٢٢)
وثالثتها: ﴿وأدخل يدك في جيبك﴾ (النمل، ١٢).
﴿واضمم إليك جناحك﴾ أي: يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية
عليك» وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لا عجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ماله سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره.
تنبيه: بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
وقال الكلبي ومجاهد: بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال: «ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له» وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان:
أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام.
المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ ﷺ كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» وزاد في رواية «وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال تعالى:
﴿وفي أموالهم﴾ أي كل أصنافها ﴿حق﴾ أي نصيب ثابت ﴿للسائل﴾ أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف ﴿والمحروم﴾ وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يُفطن له ليُتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
وقيل قدّم السائل لتجانس رؤوس الآي. وقيل: السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة قال ﷺ «في كل كبد حراء أجر» وهذا ترتيب حسن لأنّ الآدمي مقدّم على البهائم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال قتادة والزهري: المحروم


الصفحة التالية
Icon