من الله صبغة} أي: لا صبغة أحسن من صبغته أي: لا دين أحسن من دينه وصبغة تمييز وقوله تعالى: ﴿ونحن له عابدون﴾ عطف على آمنا بالله قال الزمخشري: وهذا العطف يردّ قول من زعم أنّ صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول: ما قالت حذام اه.
نعم إن قدر قولوا في ﴿ونحن له عابدون﴾ معطوفاً على الزموا بتقدير الإغراء أو اتبعوا ملة إبراهيم بتقدير البدل لم يلزم ما قاله. ولما قالت اليهود للمسلمين: نحن أهل الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب؛ لأنهم عبدة الأوثان ولو كان محمد نبياً لكان منا؛ لأنا أهل الكتاب.
نزل ﴿قل﴾ لهم ﴿أتحاجوننا﴾ أي: تجادلوننا أو تخاصموننا ﴿في الله﴾ أي: في شأنه أن اصطفى النبيّ ﷺ من العرب دونكم ويقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترون أنكم أحق بالنبوّة منا ﴿وهو ربنا وربكم﴾ نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشأ من عباده هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة ﴿ولنا أعمالنا﴾ نجازي بها ﴿ولكم أعمالكم﴾ تجازون بها أي: كما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، فالعمل هو أساس الأمر وبه العبرة ﴿ونحن له مخلصون﴾ في الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة والهمزة للإنكار، والجمل الثلاث أحوال، وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام بخلاف عنه وله فيه الروم والإشمام.
وقوله تعالى: ﴿أم يقولون﴾ قرأه ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالتاء، والباقون بالياء على الغيبة، فعلى القراءة الثانية أم منقطعة والهمزة للإنكار، وعلى القراءة الأولى يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أتحاجوننا بمعنى أيّ الأمرين تأتون المحاجّة وادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء في قولكم: ﴿إنّ إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل﴾ لهم يا محمد ﴿أأنتم أعلم أم الله﴾ الله أعلم، وقد نفى الله تعالى الأمرين عن إبراهيم بقوله تعالى: ﴿ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلمًا﴾ (آل عمران، ٦٧) واحتج تعالى على ذلك بقوله تعالى: ﴿وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده﴾ (آل عمران، ٦٥) والمذكورون معه تبع له، فهم أتباعه في الدين وفاقاً.
﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم ممن كتم﴾ أي: أخفى عن الناس ﴿شهادة عنده﴾ كائنة ﴿من الله﴾ أي: شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية وهم أهل الكتاب؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وكتموا شهادة الله تعالى لمحمد بالنبوّة في كتبهم وغيرها، ومن للابتداء كما في قوله تعالى: ﴿براءة من الله ورسوله﴾ (التوبة، ١) أي: شهادة كائنة من الله، فمن الله صفة لشهادة وقوله تعالى: ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ تهديد لهم.
وقوله تعالى: ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون﴾ تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الإفتخار بالآباء والإتكال عليهم وقيل: الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم وقيل: المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.
﴿سيقول السفهاء﴾ أي: الجهال الذين خفت
لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ قوله ﴿وأسرّوه بضاعة﴾ يدل على أنّ المراد أنهم أسرّوه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
تنبيه: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته. قال الزجاج: وبضاعة منصوب على الحال كأنه قال: وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة ولما جعل تعالى هذا البلاء سبباً لوصوله إلى مصر، ثم صارت وقائعه إلى أن صار ملكاً بمصر، وحصل ذلك الذي رآه في النوم، فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيّره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال تعالى: ﴿والله عليم﴾، أي: بالغ العلم ﴿بما يعملون﴾، أي: لم يخف عليه ما فعلوه بيوسف وأبيهم.
﴿وشروه﴾، أي: باعوه إذ قد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال: شريت الشيء بمعنى بعته وإنما حمل هذا الشراء على البيع؛ لأنّ الضمير في (شروه) وفي ﴿كانوا فيه من الزاهدين﴾ يرجع إلى شيء واحد، وذلك أنّ إخوته زهدوا فيه فباعوه، وقيل: إنّ الضمير يعود إلى مالك بن ذعر وأصحابه، وعلى هذا يكون لفظ الشراء على بابه.
وقال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أَإِخوته باعوه أم السيارة، واختلفوا في معنى قوله تعالى: ﴿بثمن بخس﴾ فقال الضحاك: ، أي: حرام، لأنّ ثمن الحرّ حرام وسمي الحرام بخساً؛ لأنه مبخوس البركة. وقال ابن مسعود: أي: زيوف، وقال عكرمة: أي: بثمن قليل، ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿دراهم معدودة﴾ لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عداً، فإذا بلغتها وهي أوقية وزنوها، واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس: كانت عشرين درهماً فاقتسموها درهمين درهمين، وعلى هذا لم يأخذ أخوه بنيامين شقيقه منها شيئاً، وقال مجاهد: كانت اثنتين وعشرين درهماً. وقال عكرمة: أربعين درهماً. ﴿وكانوا﴾، أي: إخوته ﴿فيه﴾، أي: يوسف ﴿من الزاهدين﴾ لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى، ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال: زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله القلة، يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وقيل: كانوا في الثمن من الزاهدين؛ لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه. وقيل: الضمير في كانوا للسيارة؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه لا جرم باعوه بأوكس الأثمان.
روي في الأخبار أنّ مالك بن ذعر انطلق هو وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه؛ لأنه آبق فذهبوا به حتى أتوا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير أو اطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله تعالى العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: ﴿ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات﴾ (غافر، ٣٤) وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين.
كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز: أن كاتباً له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
ومعنى قوله تعالى ﴿من الرهب﴾ من أجل الرهب أي: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلداً وضبطاً لنفسك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، قال الفراء: أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك، قال البغويّ: وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير، قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي: في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى، قال الزمخشريّ معترضاً هذا القول:
ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى.
ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض، وفي البغوي عن ابن عباس: أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال: وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه، وقال مجاهد: وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء، والكل لغات، ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى: ﴿فذانك﴾ أي: العصا واليد البيضاء، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون، وخففها الباقون ﴿برهانان﴾ أي: سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان ﴿من ربك﴾ أي: المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ﴿إلى فرعون وملإيه﴾ أي: وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً؟ أجيب: بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله:
﴿إنهم كانوا﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿قوماً﴾ أي: أقوياء ﴿فاسقين﴾ أي: خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم، ولما قال تعالى: ﴿فذانك برهانان﴾ إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى
المتعفف الذي لا يسأل الناس وقال زيد بن أسلم: المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته وهو قول محمد بن كعب القرظي قال: المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ ﴿إنا لمغرومون بل نحن محرومون﴾ (الواقعة: ٦٦ ـ ٦٧)
﴿وفي الأرض﴾ أي من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها ﴿آيات﴾ أي دلالات على قدرة الله تعالى ووحدانيته ﴿للموقنين﴾ أي الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها قال القشيري: من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومن الآيات فيها أنه يلقي عليها كل قذر وقمامة فتنبت كل زهر ونور فكذلك العارف بتشرّب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق حسن عليّ وشيمة زكية.
﴿وفي أنفسكم﴾ آيات أيضاً من مبدإ خلقكم إلى منتهاه، وما في تركيب خلقكم من العجائب ﴿أفلا تبصرون﴾ أي: بأبصاركم وبصائركم فتتأمّلوا ما في ذلك من الآيات فمن تأمّلها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له ربّاً غير محتاج إلى أحد.
﴿وفي السماء﴾ أي: جهة العلو ﴿رزقكم﴾ بما يأتي من المطر والرياح والحرّ والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه وتعالى لمنافع العباد، وقال ابن عباس يعني بالرزق المطر لأنه سبب الأرزاق، وقيل: في السماء رزقكم مكتوب وقيل تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت ﴿وما توعدون﴾ قال عطاء: من الثواب والعقاب وقال مجاهد: من الخير والشرّ وقال الضحاك: من الجنة والنار.
ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال عز من قائل:
﴿فوربّ﴾ أي: مبدع ومدبر ﴿السماء والأرض﴾ أي: وما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه ﴿إنه﴾ أي: الذي توعدونه من الخير والشرّ والجنة والنار وما ذكر من أمر الرزق وما تقدّم الإقسام عليه ﴿لحق﴾ أي ثبات يطابقه الواقع ﴿مثل ما أنكم تنطقون﴾ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن لا تشكوا في تحقيق ذلك وقال بعض الحكماء: معناه أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكن أن ينطق بلسان غيره، كذلك كل أحد يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره وأنشدوا في المعنى:
*ما لا يكون فلا يكون بحيلة... أبداً وما هو كائن سيكون*
*سيكون ما هو كائن في وقته... وأخو الجهالة مكمد مغبون*
وقيل: معناه إنّ القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة برفع اللام على أنه نعت لحق، وما مزيدة وأنكم مضاف إليه أي لحق مثل نطقكم ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة لأنها لا تتعرف بذلك لإبهامها، والباقون بالنصب على أنه نعت لحق أيضاً كما في القراءة الأولى: وإنما بنى الاسم لإضافته إلى غير ممكن كما بناه القائل في قوله:
*فتداعى منخراه بدم... مثل ما أثمر حماض الجبل*
يفتح مثل مع أنها نعت لدم وقيل أنها نعت لمصدر محذوف أي لحق حقاً مثل نطقكم. وقوله


الصفحة التالية
Icon