ومثل هذا حدث فى الفقه أيضا حيث ظهرت مدرستان فقهيتان: مدرسة الحديث. ومدرسة الرأى، واشتهر عن مالك رضى الله عنه أنه من مؤسسى المدرسة الأولى فى المدينة، وعن أبى حنيفة أنه مؤسس المدرسة الثانية فى العراق.
وحدث أيضا فى علم الكلام حيث انقسم المتكلمون فى علم التوحيد أو فى صفات الله.. إلى سلف: يحجمون عن التأويل فى مثل يد الله، وعينه، ووجهه، واستوائه مما ورد فى القرآن، ويقولون: له يد.. لا كأيدينا.. ولا نقول أكثر من ذلك، وإلى خلف: رأوا أن مثل هذا الموقف لا يشبع نهم عالم، ولا يردّ شبهة متمرد، فلجئوا إلى التأويل بأن اليد معناها القدرة، ليسكتوا هؤلاء المتمردين.. معتمدين على الاستعمالات المجازية فى كلمة اليد فى الأسلوب العربى..
ولا نعتقد أن أحدا منهم جاوز الهدف فى أيامه فى خدمة الاسلام، ولكن كان لكل منهم طريقة فى أداء هذه الخدمة حسبما رأى، على أن الذين اتجهوا إلى الاعتماد فى التفسير على الرأى لم يهملوا الأحاديث الصحيحة، بل ذكروها أيضا، وجالوا فى دائرتها، علما بأن الرسول ﷺ لم يفسر القرآن كله، ولم ترو أحاديث صحيحة يمكن بها تفسيره كله.. فالحاجة تدعونا- إذن- إلى الاعتماد على العقل والرأى فى التفسير.
على أن الذين عابوا التفسير بالرأى لم يعيبوه إلا لبعض سقطات من بعض الذين تركوا الحديث، واعتمدوا على عقولهم وعلى وجه من وجوه اللغة، غير ناظرين لما روى من حديث صحيح، ولا إلى الوجه الآخر فى اللغة، ولا إلى جو الآية.. بل نجدهم- أعنى أصحاب التفسير المأثور- أعملوا عقولهم فى التفسير، فإن أبا بكر رضى الله عنه، لم يكن يعنى إلغاء عقله نهائيا أمام القرآن والتوقف النهائى عن فهمه، إذا لم يرد فيه حديث، بل كان وقوفه أمام أمر يحتاج إلى رواية.. بدليل أنه وعمر وابن عباس وباقى الصحابة، كانوا يرجعون فى الفهم إلى لغة العرب واستعمالاتهم، وقد سأل عمر عن معنى «الأب»، وعن معنى «تخوف»، وكان ابن عباس يفسر القرآن بما عرفه من كلام العرب


الصفحة التالية
Icon