ذلك الوقت، والمأثورة عن عصر الجاهلية قبل نزول القرآن الكريم، فلم يعهد فى أسلوب القدامى الفصحاء والبلغاء أن أتوا بهذا النسق من الكلام الذى جرت به الآيات القرآنية فى سوق الأمثال بخصائصها وطرائقها، لم يؤثر عن القدامى فى الجاهلية إلا ذلك النمط من الحكمة الصائبة الصادقة، والقول السديد فى لفظ موجز بليغ، وهو لون لا شك أنه من جملة الأساليب التى تحاط بالاحترام والتقدير؛ لما لها من أثر النفس، وتقدير فى العقل، وهو ما يطلق عليه الأمثال الحكيمة، وهى نتاج خبرات، وأحداث، وتفكير، وصدق، إلا أنها لم تتعد ذلك الجانب الذى وردت به، ولم يكن لها ذلك الحظ من المساحة العريضة الواسعة من تصوير المشاهد، وإضفاء الجوانب التأثيرية، كما ورد ذلك فى القرآن الكريم، وقد يرجع هذا إلى طبيعة العصر وما فيه من بداوة، أو لضيق أفق وفكر فى الإلمام بكل جوانب الحياة، وللجاهلية الفاشية فى نقص معلوماتهم، وتقليدهم واتباعهم للآخرين، وتأثرهم بتفكير السابقين فى قولهم وفعلهم.
عوامل عديدة قعدت بهم عن إعطاء ذلك المظهر التعبيرى الفسيح الذى كان بحق وثيقة تاريخية كتابية صادقة لمست ونطقت بحياة الناس، فكانت كما عبر أحد الكتاب عن قيمة الأمثال: إنها مرآة ترى الإنسان وجهه وحقيقة نفسه، وما فى حياته من أشياء، كما تريه ما خلفه من مناظر ومشاهد يعجز أن يراها بغيره.
الأمثال مرآة صادقة للحياة، وقد ظهرت بأنواعها العديدة فى آيات الله، حتى أن بعض المفسرين حاول أن يحصر ما يطلق عليه من أمثال حكمية، فوجدها تقرب من الثلاثين مثلا، وتكلف آخرون فى إيجاد ارتباط بين الكثير من الأمثال الحكمية التراثية التى وردت إلينا من خلال الموروث من الآداب الجاهلية وغيرها، وبين آيات القرآن الكريم، والتدليل على ذلك بذكر هذه الآيات، وتبيان ما بينها من معان متفقة، وقريبة الصلة بمعانى أمثال معروفة سائرة، فهى أمثال بمعانيها لا بألفاظها، ومن هنا سميت أمثال كامنة، كما عبر عن ذلك الإمام السيوطى فى كتابه الإتقان فى علوم القرآن، الذى قال: إنها تمثل القسم الثانى للأمثال القرآنية التى لا ذكر للمثل فيه، ولم ترد فيه حكاية الأمثال الشائعة، وإنما هى أمثال فى نظر العلماء من حيث ما ورد فيها من معنى قريب الصلة بمعانى أمثال معروفة سائرة.
وقد أعطى نماذج عديدة لذلك، مثل قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢]، الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف: ٥١]، ذلِكَ بِما