وكم من دلالات يتعلمها الإنسان، حتى فى علو مكانته، وسموّ منزلته، من تلك الأشياء الصغيرة، إن نظرة فى أعمق أعماق التاريخ يرى موقف ابن آدم، عليه السلام، حيث قتل أخاه، يقف موقف الخاسرين، لا يعرف ما يأتى وما يذر، فيبعث الله إليه غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، فأصبح من النادمين.
وسليمان، عليه السلام، وهو نبى مرسل من قبل الله، يمرّ على بيت للنمل، فتراه النملة، فتقول: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: ١٨، ١٩].
وكذلك موقفه من الهدهد الذى أتى إليه بأخبار ملكة سبأ، كل هذا كان مددا لسليمان، عليه السلام، من تلك الأشياء الصغيرة التى كانت مصدر علم ومعرفة لنبى الله، فكان منه الشكر، والطاعة لله رب العالمين، ليست العبرة إذن فى كثرة الأشياء وقلتها، وكبر الأحجام وصغرها، وثقل الأوزان وخفتها، وإنما فيما تتركه من أثر فى اهتداء العقل، وضلاله، وإيمانه، وانصرافه عن الحق.
٢ - قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: ٢٨].
ما موقف الآيات التى سبقت هذا المثل ومهدت له؟ جاء هذا المثل عقب آيات تناولت قدرة الله المطلقة فى السموات والأرض، وأنه صاحب الأمر فيهما، وكل من خلقه خاضع لمشيئته، من إنس وجن، راجع إليه لا يخرج عن قدرته وسيطرته، وقدرته أيضا على الخلق والإعادة، واتصافه بصفات الكمال المطلق، العزيز الغالب الذى يصنع كل شىء فى حكمة وتقدير، قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: ٢٦، ٢٧].
هذا هو التمهيد والفرش لما يأتى من مثل بعد ذلك، يثير فى العقل الإنسانى وكل من يخاطب ويقع فى دائرة التكليف دفعة إلى التمييز بين المتقابلات، والفهم للحقائق، وحسن استخدام ما جعله الله تكريما للإنسان، وهو العقل.