٣ - قال سبحانه فى سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: ٢١].
تبين لنا هذه الآية أن ماء المطر قد يدخله الله تعالى فى الأرض فى أمكنة قريبة ينبع منها، بحيث لا يستعصى على الناس إخراجه، ولا يتعذر عليهم الحصول عليه عند ضرورياتهم وحاجتهم، رحمة منه بخلقه، ولطفا بعباده، وتدبيرا محكما لسد عوزهم، وإنجائهم من المهلكات، فالآية الكريمة توقف المخاطب على ما يشاهده من نزول الماء على هذه الصفة، وعلى هذا النحو الذى لا ينكر، وقوله: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ [الزمر:
٢١]، أى أدخله ينابيع فى الأرض، وهى عيون ومجار كائنة فيها، وكانت هذه العيون وتلك المجارى قريبة من سطح الأرض، ولم تكن بعيدة فى أسفلها جدا، بحيث يشق على الناس إخراج الماء منها.
وقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الزمر: ٢١]، المراد بالزرع جميع ما يستنبت من الأرض، ومعنى اختلاف ألوانه خضرته، وصفرته، وبياضه، إلى غير ذلك، ويشمل اختلاف الأصناف كذلك من برّ، وشعير، وسمسم، وغيرها.
وقوله تعالى: ثُمَّ يَهِيجُ، أى ييبس، فَتَراهُ بعد الخضرة مثلا مصفرا من يبسه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن ينفصل عن منابته، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا، إِنَّ فِي ذلِكَ، التدبير لَذِكْرى تذكيرا وتنبيها لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: ٢١]، أصحاب العقول الصافية، فيتذكرون هذه الأحوال فى النبات، فيعلمون أنه لا بدّ لها من صانع حكيم دبر أحوالها، وهيأها على هذا النحو العجيب.
٤ - قال تعالى فى سورة المؤمنون: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: ١٨]، أتت هذه الآية بالمعنى المتقدم، مع بيان أن إنزال الماء كان بميزان مضبوط يتمشى مع مصالح البلاد والعباد، وتحيا به الخلائق والكائنات، فليس فيه زيادة على المصلحة، فيكون الغرق والهلاك، وليس فيه نقص، فيكون القحط والجدب.
ونريد أن نقف قليلا عند قوله سبحانه: بِقَدَرٍ [المؤمنون: ١٨]، فهذا يدل على أن نزول الماء لم يكن من طبيعة السماء، ولا من مادتها، ولا بحكم أنها سماء، وإلا لكان