إما زائدا عن المصلحة، وإما ناقصا عنها، وإما متمشيا، وفى حال تمشيه معها، لم يكن عن قصد أو تدبير، وإنما هو بالمصادفة، فليس إنزاله على تلك الضوابط العجيبة والموازين الدقيقة إلا للقادر المختار، الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى.
كما أن فى قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: ١٨]، ما يفيد هذا المعنى أيضا، فلم يكن وجود الماء فى الأرض من ذاتها أو طبيعتها، ولا بحكم أنها أرض، وإلا لبقى دائما أبدا لا يزول ولا يحول، وكم سمعنا ورأينا ذهاب الماء من أرض كان فى باطنها، وخلوها منه بعد أن كان متمكنا فيها.
فقدرة الله سبحانه على إذهاب الماء من الأرض قدرة فائقة، لا يتعاظمها شىء، ولا يقف أمامها مانع، كما هو ظاهر من التعبير القرآنى، فما دام الموجد لهذا الماء
والمخترع له هو الله الفاعل المختار، فهو كذلك القادر على رفعه، وإزالته، وزواله، فعلى العباد أن يستنبطوا النعمة فى الماء، ويقيدوها بالشكر الدائم.
٥ - قال سبحانه فى سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس: ٣٣ - ٣٦].
نرى فى هذا تصريحا بأن عملية إنزال الماء، وإخراج النبات به، وما إلى ذلك، دليل واضح، وبرهان ظاهر على توحيد الله تعالى وقدرته الباهرة.
وإذا كان جل ذكره يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: ٨٢]، ويقول: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: ٢٩]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤]، فعلى المؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية التى نحن فيها وأمثالها مما قدمنا؛ لاستخراج ما فيها من المعانى الدالة على جلال الخالق سبحانه وكماله. ومن هنا أنشد الإمام القشيرى معنفا وموبخا من أهمل ذلك ولم يحفل به، يقول:

يا من تصدر فى دست الإمامة فى مسائل الفقه إملاء وتدريسا (١)
غفلت عن حجج التوحيد تحكمها شيدت فرعا وما مهدت تأسيسا
(١) الدست: فارسى معرب، بمعنى اليد، يطلق على التمكن فى المناصب والصدارة.


الصفحة التالية
Icon