المطلب الثالث: إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:
يضطرنا إثبات هذا المطلب، أن نبين فى وجازة ضرورة النبوّات للبشر.
قال ابن سينا، كما نقله العلامة القاسمى فى كتابه دلائل التوحيد: من المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع وشركة فى ضروريات حاجاته، مكفيا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضا مكتفيا به، ولا تتم الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما، يفرغ كل واحد منهما صاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير، ولا بد فى المعاملة من سنة وعدل، ولا بدّ من سان معدل، ولا بدّ من أن يكون إنسانا، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم فى ذلك فيختلفون، ويرى كل واحد منهم ما له عدلا وما عليه جورا وظلما، فالحاجة إلى هذا الإنسان فى بقاء النوع الإنسانى أشد من الحاجة إلى إثبات الشعر على الأشفار والحاجبين، فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى هذه وتدع تلك التى هى أثبتها، فلا بد إذن من نبى هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند الله، يدعوهم إلى التوحيد، ويمنعهم من الشرك، ويسنّ لهم الشرائع والأحكام، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن التباغض والتحاسد، ويرغبهم فى الآخرة وثوابها، ثم يكرر عليهم العبادات ليحصل لهم تذكر المعبود بالتكرير، واستفادة ملكة الالتفات إلى الحق والإعراض عن الباطل.
وفى هذا المطلب أيضا يسلك القرآن الكريم بالجاحدين والمنكرين مسلك الحث على النظر والاستدلال، وذلك فيما لابسه من أحوال شريفة، وما اتصف به من خلال كريمة.
قال الله تعالى فى سورة يونس: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: ١٦]، جاءت هذه الآية الكريمة ردا على اقتراح المنكرين فى الآية السابقة: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: ١٥]، وفى هذا الاقتراح منهم رمز وإشارة بأنه إنما أتى بهذا الكتاب من عنده لا من جهة الوحى.
وبيان ذلك أن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما، ولم يشاهد عالما، ولم ينشئ قريضا ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتابا بذت فصاحته كل منطق، وعلا على كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع، وأعرب عن