الوجه الأول: صحة الاستثناء منها، وقد تقرر أن الاستثناء لا يكون إلا من العام؛ لأنه يخرج ما لولاه لدخل، فلو قلت: رأيت الناس، لصح استثناء كل واحد من أفراد الناس من الناس، ولو قلت: كلمت القوم، لصح استثناء كل واحد من أفراد القوم من القوم، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الحجر: ٤٢]، فإنه استثنى من الجمع
المضاف إلى المعرفة، فعلم أنه للعموم كالجمع المحلى بالألف واللام.
الوجه الثانى: أنه يصح تأكيدها بما يفيد العموم، كقوله سبحانه: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٣٠]، والتأكيد تقرير ما يفيده المتبوع، فلو لم يكن لفظ الْمَلائِكَةُ للعموم لما كان قوله: كُلُّهُمْ تأكيدا له.
الوجه الثالث: استدلال الصحابة بعمومها من غير نكير، فإنه لما وقع الاختلاف بعد رسول الله ﷺ فى أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، تمسك أبو بكر، رضى الله تعالى عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش»، ولم ينكره أحد، يعنى أن جمهور الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، سلموا أن الجمع المعرف بالألف واللام، وهو لفظ الأئمة الواقع فى الحديث يفيد العموم والقصر عليهم.
وبناء على هذا فكلمة النَّاسُ فى الآية الكريمة تعم الموجودين وقت النزول عموما مستفادا من النظر إلى جانب اللفظ، واعتبار كونه موضوعا للعموم مع قطع النظر عن القرائن الخارجية، بخلاف من سيوجد بعد وقت النزول، فإن لفظ النَّاسُ وإن كان يعمهم أيضا، إلا أن عمومه ليس بجهة لفظ فقط، بل بالنظر إلى القرينة الخارجية، وهو ما تواتر من دينه، عليه الصلاة والسلام، أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين، ثابت إلى قيام الساعة، إلا ما خصه الدليل وأخرجه عن الدخول تحت مقتضى خطابه وأحكامه ممن لا يفهم الخطاب كالصبى، والمجنون، والمغمى عليه، والناسى، ومن لا يقدر على إتيان المأمور به وترك المنهى عنه.
وإنما كان لفظ النَّاسُ فى هذه الآية لا يتناول بجهة لفظه من سيوجد بعد وقت الخطاب؛ لأنه خطاب مشافهة، فهو لا يتعلق بالمعدوم، وإنما يتعلق بمن وجد فى ذلك العصر، ولا يثبت الحكم لمن وجد بعدهم إلا بدليل آخر، نصا كان، أو إجماعا، أو قياسا، فإنا قد عرفنا بالتواتر كما تقدمت الإشارة إليه آنفا أن الخطابات المتعلقة بالموجودين فى عصر النبوّة ثابتة فى حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة.