ولا شك بعد هذا البيان والإيضاح، أن القرآن حجة بينة عامة شاملة، لا تختص بطائفة دون أخرى، ولا مذهب دون سواه، من حيث إنه نزل وهو يحمل فى طيه وبين ثناياه الدليل على أنه من عند الله تعالى، حيث إن أحدا لم يستطع أن يحاكيه، ولا أن يعارضه فى أى ناحية من النواحى فى نظمه ومعانيه، فى تشريعه وأحكامه، فى قصصه وأخباره، فكان ذلك حجة بالغة وآية بينة لكل مكلف فيما طلب إليه أن يقوم به من عقيدة، وامتثال أمر، واجتناب نهى.
نعم، عجز الكل عن معارضته وهم يرونه مكتوبا، ويسمعونه مقروءا بلسان عربى مبين، فليس هو من الأحاجى والألغاز، ولا من الطلاسم والأسرار، وليس محجوبا عنهم ولا خافيا عليهم.
وكم تكرر وصف الله تعالى له بأنه كتاب مبين، وبأنه قرآن عربى، عجزوا عن معارضته، وهو يصف من كذب به بأنه أصم، وأبكم، وأعمى، وأنه فى الظلمات ليس بخارج منها، وأنه شر من الدواب، وأن له فى الآخرة نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى.
عجزوا عن معارضته وهو يبين أن أعمال الخير الصادرة ممن كفر به: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: ٣٩]، فما كان أيسر لهم أن يعارضوه لو استطاعوا ليزيلوا عن أنفسهم هذه النقائص، ويريحوا أفئدتهم من هذا العناء، ويخلصوا وجودهم من هذا الشقاء المضنى الأليم.
عجزوا عن معارضته وهو يقول لهم: لَنْ تَفْعَلُوا المعارضة ولن تستطيعوها، فأربى بذلك على الغاية، وأتى على ما فوق النهاية، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: ١].
عجزوا عن معارضته وهو يقول فى محكم آياته: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤].
فهو يأمرهم بمقتضى هذه الآيات أن يتدبروه، وأن يتفهموه، وأن ينظروا فيه حتى لا تبقى لهم شبهة يتعللون بها، ولا وهم يتمسكون به، يعنى فالقرآن العظيم مصدق لنفسه فيما جاء به من نفائس علم التوحيد، وحقائق علم الأحكام، وأسرار قصص الأولين، بسبب الإعجاز الذى هو حقيقة من حقيقته، وركن من أركان معناه، وهذا ما يجب ألا