الإيمان وانصرفوا بعد ذلك متأثرين بجاذبية القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح هذا التأثر دعاهم منذ أول وهلة أن يكونوا دعاة إلى الله فانصرفوا بعد ما قضى إلى قومهم مبشرين ومنذرين. فعلا لقد كان لهذا النفر من الجن قلوب يعقلون بها، وذوق ذواق، ومشاعر مرهفة.
فليعتبر بهم من دونهم من بنى البشر ممن يقولون بعدم تأثرهم بسماع القرآن وعدم تحرك قلوبهم به.
والعيب كل العيب فى هذه القلوب الغافلة. يا ترى ما الذى صرفها عن التذوق والتأثر بكتاب لا يثبت له شىء يتلقاه بحقيقته حتى لو كان هذا الشيء هو الجبل بعظمته وغلظته وشموخه. قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١).
فعند ما يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشرى بلا عائق يعوقه ولا مانع يمنعه فإنه سوف يهزه هزا ويؤثر فيه تأثيرا ويفعل فيه الأفاعيل مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه... وها هو الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- (خرج ذات ليلة يتفقد أحوال الرعية يعس بالمدينة. فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلى، فوقف يستمع قراءته وكان الرجل يقرأ من سورة (الطور) فلما بلغ قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ قال رضى الله عنه قسم ورب الكعبة حق فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ثم رجع إلى منزله فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه» (٢).
وذلك سر القرآن. فهناك لحظات خاصة غير مرقوبة تمس فيها الآية أو السورة موضع الاستجابة فإذا وافقت قلبا مكشوفا وحسا مرهفا مفتوحا نفذت إليه وفعلت به الذى فعلت فيكون منها ما يكون.
(٢) هذا الأثر ذكره ابن كثير بسنده (ج ٤ ص ٢٤١) وعزاه للحافظ ابن أبى الدنيا.