فعلى سبيل المثال: نزول الله سبحانه إلى سماء الدنيا متشابه، لإيهامه التّحول في الذّات العليّة، ووصفه باليد والعين والاستواء متشابه لإيهامه مشابهة الحوادث، وتقرير أنه في السماء متشابه لأنه يتعارض مع كونه بكل شيء محيط، وهكذا...
ولا يخفى أن منشأ تخالف الطريقتين؛ إنما هو الاضطراب في تحديد الوقف في الآية، فقد اختار السلف الوقف عند لفظ الجلالة كما بيّنّا، واختار الخلف عدم الوقف، واعتبار الواو عاطفة، على أساس أن الله سبحانه علم الراسخين في العلم أمر تأويله، فهم به عارفون (١).
وقد نقل هذا القول عن الصحابي الجليل ابن عباس، كما في الطبري أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، وأنا أعلم تأويله (٢).
ولكن نقل الطبري نفسه عن ابن عباس أيضا أنه قرأ: (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الرّاسخون في العلم آمنّا به) (٣)، فتكون قراءته بذلك بمثابة الجزم بأن علم المتشابه محصور في المولى سبحانه، وعلى العباد التّسليم، والله أعلم.
وقد اختار صاحب كتاب (أصول الفقه الإسلامي) مذهب السلف، والقول بالتسليم والتّفويض لله بمراده، وأشار إلى أنه لا يترتب على هذا الخلاف نتيجة عملية، ولا صلة لهذا البحث بالأحكام الشرعية (٤).
ونشير هنا إلى أن التّفويض غنية المؤمن، وفيه سلامة اعتقاده، وتمام أدبه مع الله عزّ وجلّ، ولكن إذا عرضت للمرء الشّبهات، أو قصد بيان العقيدة الإسلامية لأهل الشكوك، فإنه لا مندوحة من التأويل الدافع لإيهام التناقض، ويكون المؤول حينئذ يدفع الفتنة لا يبتغيها، فلا يكون مشمولا بقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: ٣/ ٧].
(٢) تفسير الطبري ٦/ ٢٠٤.
(٣) تفسير الطبري ٦/ ٢٠٢، وروى مثل ذلك عن أبيّ بن كعب، وطاوس بن كيسان.
(٤) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي ٢/ ٣٤٣.