حتى قال له الله عزّ وجلّ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: ١٨/ ٦].
وأفادت القراءة الثانية معنى آخر وهو أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل عن أصحاب الجحيم يوم القيامة، ولا يحاسب عنهم بعد أن بلّغهم رسالة الله، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن الناس مجزيون بما قدموا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
وكما ترى فليس بين القراءات تنافر وتضادّ، بل كل قراءة أفادت معنى جديدا، وتعدّد القراءات ينزل منزلة تعدّد الآيات.
وإذا كانت هذه الآية لم يثبت لها سبب نزول تنهض به حجة (١) يتصل بوالدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه ينبغي التأكيد على صرفها عن ذلك، تأدّبا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، واستدلالا بقول الله سبحانه:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٧/ ١٥]، ولا خلاف أن من لم يدرك بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فهو من أهل الفترة، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: ٥/ ١٩].
وقال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السّجدة: ٣٢/ ٣].
وأهل الفترة ناجون على الأصح، استدلالا بقول الله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وهو مذهب الأشاعرة خلافا لما ذهبت إليه الماتريدية من وجوب معرفة الله بالعقل، وما قالته المعتزلة من أن الأحكام كلها تثبت بالعقل (٢)، وإن كنا نعتذر للماتريدية بأن مؤدّى قولهم، أنه لو لم يرد به الشرع لأدركه العقل استقلالا لوضوحه،
وليس كما قالت المعتزلة مستندة إلى التحسين العقلي.
قال الباجوري: والمذهب الحق أن أهل الفترة؛ وهم من كان في أزمنة الرّسل أو في زمن الرسول الذي لم يرسل إليهم ناجون، وإن بدّلوا وغيّروا أو عبدوا الأصنام (٣).
(٢) شرح الباجوري على جوهرة التوحيد ٤٧، وفيه قال الباجوري: إن المعرفة تثبت بالشرع لا بالعقل، وهذا مذهب الأشاعرة، وجمع من غيرهم، فمعرفة الله وجبت عندهم بالشرع، وكذلك سائر الأحكام؛ إذ لا حكم قبل الشّرع أصليا ولا فرعيّا.
(٣) المصدر نفسه ٤٤.