نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم في النظر وأحكمته الرويّة وراضه اللسان، وليس منها إلا متخيّر مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات» (١).
وقد يكون في حديثنا القادم عن الفاصلة القرآنية، والسجع القرآني، ما يوضح بعض الجوانب التي قصد إليها الرافعي في حديثه، أو في كتابه الذي يأخذ بعضه برقاب بعض، وإن كان- هو- لم يفته أن يشير بالطبع إلى هذه الفواصل، ويجعلها من جملة الأمور التي أعطت للنظم الموسيقى أبعاده الأخيرة؛ قال: «وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا، يلائم نوع الصوت، والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب»!.
ولهذا كان النص القرآني قابلا للتلاوة، على طريقة الترتيل، وعلى طريقة الألحان والأوزان، ولم تكن قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم قابلة لذلك (٢).
وقد ردّ الأستاذ قطب هذه الظاهرة إلى أن القرآن الكريم جمع بين مزايا النثر والشعر جميعا، «فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة، والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي، وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرناها، فشأى النثر والنظم جميعا» (٣).
وقد تحدث الاستاذ الدكتور صبحي الصالح عن هذه الموسيقى الداخلية،

(١) تاريخ آداب العرب ٢/ ٢٤٠.
(٢) انظر تفصيل هذه النقطة في المصدر السابق ٢/ ٢٢٥.
(٣) التصوير الفني في القرآن ص ٨٦.


الصفحة التالية
Icon