أي إن الفاصلة تقوم بدورها في «إحكام» بناء الآية في الشكل والمضمون، أو في المبنى والمعنى على حد سواء؛ لأن منهج الآية في التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، والفصل والوصل، لا يقوم على اعتبارات شكلية محضة، بل يتبع كذلك المعنى فيسهم في «إحكامه» أيضا على أوثق وجوه الإحكام. وهذا هو ما أشار إليه الزمخشري في «كشافه» القديم (١).
أما الإحكام اللفظي، أو النظم الموسيقى فإن دور الفاصلة فيه شديد الوضوح.. حتى إن هذه الفواصل أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وحروف المدّ واللين.. وتلك هي الحروف الطبيعية في الموسيقى نفسها؛ قال سيبويه- رحمه الله-: «أما إذا ترنّموا- أي العرب- فإنهم يلحقون الألف والواو والياء؛ ما ينوّن وما لا ينوّن؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت». قال: «وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنّم: وناس من بني تميم يبدلون مكان المدة النون» (٢).
أما «إحكام» المعنى فيجب النظر فيه في سياق الآية أو الآيات ذاتها. ونحن هنا نقطع بأن إحكام المعنى هنا قرين إحكام اللفظ، حتى ولو لاحظنا أن «إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل» - بحسب تعبير الزركشي- كان بتأخير ما أصله أن يقدّم، أو إفراد ما أصله أن يجمع، أو جمع ما أصله أن يفرد، أو تثنية ما أصله أن يفرد... إلى آخر هذه الأسباب التي عددها الزركشي في باب إيقاع المناسبة هذا!! لأننا لا نفهم هذا «الأصل» الذي يشير إليه- ولا ندري كيف صار أصلا- إلا من زاوية ذلك الإحكام الدقيق في المبنى والمعنى جميعا... والذي لم تسهم فيه الفاصلة فحسب، بل توّجته وأوضحته وجلّته تمام الجلاء! وقبل أن أورد لك بعض
(٢) الكتاب ٢/ ٢٩٨.