(أ) قال الله تعالى في سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)... الآيات.
نزلت هذه الآيات الكريمة في عتاب النبيّ ﷺ حين أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وقد جاءه يطلب سماع القرآن، وأن يعلّمه النبيّ شيئا مما علّمه الله سبحانه... وكان النبيّ ﷺ مشغولا بنفر من كبار قريش يعرض عليهم الإسلام، يطمع في دخولهم فيه، وما يتبع ذلك من هداية من وراءهم...
فعبس ﷺ في وجه عبد الله وأعرض عنه؛ فنزلت الآيات مبيّنة أن ميزان الله هو الميزان، وأنه ليس للنبيّ الكريم أن يعرض عن رجل هو في ميزان الله فوق أولئك الرؤساء والزعماء، أصحاب الجاه الواسع، والمكانة العالية، والثراء العريض..
حتى ولو كان النبيّ ﷺ مشغولا معهم بأمر يخصّ الدعوة والإسلام لا بأمر شخصي أو له علاقة بالنبيّ نفسه- عليه الصلاة والسلام-...
ونقف أولا عند الفاصلتين الأولى والثانية. إن دور هاتين الفاصلتين من حيث إحكام اللفظ، والنسق والموسيقى مع سائر الفواصل الأخرى واضح لا يحتاج إلى تعليل.. ولكن نقول: إن وراء هذا الإحكام إحكاما آخر كذلك من حيث المعنى والفحوى: فكلمة «تولّى» صوّرت إعراض النبيّ النفسي أو الداخلي إذا ما قارنتها بكلمة «عبس» التي صورت حالة النبيّ ﷺ التي ارتسمت على وجهه الشريف. ومعنى ذلك أن هاتين الكلمتين استقلتا بتصوير حالة الإعراض التي ألمّت بالنبيّ الكريم من حيث الظاهر والباطن... واذكر مع هذا أن العبوس الذي صوّرته «عدسة» الآيات القرآنية عن الوجه الشريف لم يره عبد الله الذي عبس النبيّ في وجهه لأنه كان أعمى!! واذكر كذلك أن «التولي» الذي سجّلته الآية أو الكلمة القرآنية، والذي تعجز عن تسجيله العدسات وسائر أدوات الالتقاط والتصوير...
هو حالة نفسية داخلية.. وأنها لا يراها البصير.. فقد يكون أحدنا مقبلا على


الصفحة التالية
Icon