إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.. يرى ويحسب ويجازي، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء. فأما الإنسان فتخطئ موازينه، وتضل تقديراته، ولا يرى إلا الظواهر، ما لم يتصل بميزان الله.
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ...
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال، ومن بسط وقبض، ومن توسعة وتقدير... يبتليه بالنعمة والإكرام، بالمال أو المقام. فلا يدرك أنه الابتلاء تمهيدا للجزاء، إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلا على استحقاقه عند الله للإكرام، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره، فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك، ويحسب الاختبار عقوبة، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه... وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير. فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده، ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر، ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر، والجزاء على ما يظهر منه بعد. وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء. وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا، ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض. فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح. ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعوّل؛ إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي. والمعوّل عليه هو نتيجة الابتلاء!
غير أن الإنسان- حين يخلو قلبه من الإيمان- لا يدرك حكمة المنع والعطاء، ولا حقيقة القيم في ميزان الله.. فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنا لك. وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء، فعمل له في البسط والقبض سواء. واطمأن إلى قدر الله به في الحالين، وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!.


الصفحة التالية
Icon