وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا!..
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته، بعد الابتلاء ونتيجته في إيقاع قوي شديد:
كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ.
ودك الأرض: تحطيم معالمها وتسويتها، وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة. فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض، ولكنا نحس وراءه التعبير بالجلال والهول! كذلك المجيء بجهنم: نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى. فأما عن حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم.
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم، الشديدة الأسر، مشهد ترجف له القلوب، وتخشع له الأبصار. والأرض تدك دكا دكا! والجبار المتكبر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل، ويقف الملائكة صفا صفا.
ثم يجاء بجهنم متأهبة هي الأخرى!!
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ.. الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء، الذي أكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جما، والذي لم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، والذي طغى وأفسد وتولى... يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى، ولكن قد فات الأوان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى..
ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحدا! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا!.


الصفحة التالية
Icon