وكانت مجالس الصحابة هي مجالس قرآن، يتدارسون القرآن، ويحفظونه، فهو بالنسبة إليهم كل شيء، ولا شيء غيره في حياتهم، يخاطبهم ويعلمهم، وكانت الأنظار ترقب نزوله، وسرعان ما تنطلق الحناجر بشغف وحب تردد الآيات الجديدة وتحفظها، حتى أصبحت المساجد تضج بأصوات الصحابة وهم يقرءون القرآن.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار».
وروى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية، فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
وكان إذا هاجر رجل دفعه النبي ﷺ إلى رجل من الصحابة يعلّمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله ﷺ أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.
وقال ابن الجزري صاحب كتاب النشر في القراءات العشر المتوفى سنة ٥٣٣ هـ: «ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة» (١).
وهذا يؤكد لنا أن الأساس في حفظ القرآن هو حفظه في الصدور، وبخاصة أن معظم الصحابة كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وليس من اليسير عليهم أن يكتبوا القرآن، واعتمدوا على الحفظ في الصدور، وتكرار ذلك، حتى أصبحت آيات القرآن في صدر كل صحابي محفوظة يستشهد بها في كل مناسبة ويقرؤها في كل صلاة.

(١) النشر، ج ١، ص ٦.


الصفحة التالية
Icon