وتطرف ابن خلدون وابتعد، وتحدث عن الرسم القرآني في مقدمته خلال كلامه عن الحضارة والعمران وربط بين الحضارة والكتابة، فالكتابة تزدهر بازدهار العمران وتتراجع بتراجعه، وكلما كانت الأمة أقرب إلى البداوة كانت أبعد عن صناعة الكتابة، لأن الكتابة صناعة، والصناعة لا تزدهر إلا في ظل الحضارة.
وقال في معرض كلامه عن الكتابة عند العرب: وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله ﷺ وخير الخلق من بعده المتعلقون بوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل...
«وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص من قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح» (١).
ثم قال بعد ذلك:
«واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، كما رأيته فيما مر، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس» (٢).

(١) انظر مقدمة ابن خلدون ص ٧٤٧.
(٢) انظر مقدمة ابن خلدون ص ٧٤٨.


الصفحة التالية
Icon