متسائلا: وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية.
ولم يتكلم الجاحظ عن وجوه الإعجاز، ولم يؤلف في أوجه الإعجاز كما فعل غيره كالباقلاني والجرجاني والرازي والخطابي والرماني، واكتفى ببيان المعجزة القرآنية، محللا ظاهرة عجز العرب عن مواجهة التحدي، متسائلا عن أسباب تخوفهم من هذه المواجهة، وهم أصحاب فصاحة وبلاغة، وأهل خطابة وشعر وبيان وكانت لغتهم في أعلى درجات القوة، فكانوا يملكون من أسباب المواجهة ما لا تملكه الأجيال اللاحقة، وهذا التوقف والتخوف دليل على عجز القوم من كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم.
ثم قال بعد ذلك:
فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين، مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر (١).
وهذا الكلام المنسوب إلى الجاحظ لا يمكن أن يستفاد منه أن الجاحظ قد أخذ بمبدإ الإعجاز بالصرفة الذي نسب إلى «النظام» فما نسب إلى الجاحظ يؤكد عجز العرب عن التحدي، لسمو الأسلوب القرآني وعظمة هذا الأسلوب ورقيه وتميزه عن الأساليب العربية فالعرب ما استسلموا وهم قادرون على التحدي، وإنما استسلموا لأنهم وجدوا القرآن معجزة حقيقية لا سبيل إلى إنكارها، فالقرآن معجز بكل ما فيه من أسلوب ومعاني وأحكام وتشريع، وقدرة على التأثير وجمال في النسق القرآني وحكمة في الخطاب وروعة في البيان..
فمن رأى المعجزة في القرآن نظر إلى القرآن نظرة شمولية متكاملة، فأسلوبه

(١) انظر الإتقان، ج ٤، ص ٦.


الصفحة التالية
Icon