الغيب، والإنسان أقل قدرة من أن يحيط بالكون وأن يفهم أسراره وغوامضه، فالإنسان لا يدرك الكثير عن نفسه ولا عن تكوين ذاته، ولا عن معنى الحياة التي يعيشها، وفي معظم الأحيان يقف موقف العجز المطلق أمام ظاهرة صغيرة لا يستطيع فهمها، ويجد نفسه على غير إرادة منه يستسلم لها، متجاوزا معاييره العقلية، معلنا عجز الإنسان عن الفهم، مكتفيا بما هو قادر على فهمه.
والدين ليس كرواية تاريخية، والوحي ليس كحدث تاريخي مروي بأسانيد موثقة، والأمر أعمق من ذلك وأكثر دقة، وهو دراسة ظاهرة الدين والوحي والقرآن... ولا شك أن الإنسان يحتاج إلى ما هو أكثر من العقل، وإلى ما هو أكثر من الرواية، إنه يحتاج إلى الفهم، يحتاج إلى النظر الشمولي للحياة، يحتاج إلى أن يكتشف الكون في عظمته، في وجوده، في إحاطته.
العقل جزء يسير من الإنسان، الإنسان أسمى من العقل وأشمل، والإنسانية جزء يسير من أسرار الأرض، والأرض جزء صغير من الكون، والكون كله مخلوق، والمخلوق لا يقاس بالخالق، وإذا عجز العقل عن إدراك بعض أسرار الإنسان والحياة على الأرض فإن من الأولى أن يكون أكثر عجزا عن إدراك أسرار الكون.
والإنسان القديم منذ فجر الإنسانية أحس بحاجته للدين، وكان نزوعه للدين واضحا في تفكيره وسلوكه، وكان سعيه البدائي للبحث عن الدين مؤكدا أصالة الشعور الديني في تكوين الإنسان، قد يخطئ الإنسان الطريق، وقد يضل في بحثه عن الدين، ولكنه لم يستطع أن يتخلص بطريقة فعلية من الدين، وأثبتت الآثار القديمة التي اكتشفها الإنسان أن الإنسان البدائي كان يمارس عبادته الدينية بطريقة تلائمه، وكانت له شعائر دينية يتمسك بها، ولما بدأت الحضارات لم تستطع أن تضعف الشعور الديني، ونما هذا الشعور في ظل الحضارة، وأصبحت المعابد الصروح الأولى التي بناها الإنسان، وما زلنا حتى اليوم نجد في المعابد القديمة رموزا تؤكد عمق الشعور الديني لدى الإنسان القديم، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الحضارات الأولى كانت حضارات ذات مضامين دينية.