ولو كان الوحي كذلك لما استطاع محمد في تلك اللحظات الشديدة المرهقة الثقيلة أن يتلو كلاما في أعلى درجات الفصاحة وأسمى أساليب البيان، متضمنا حكما عميقة، وحافلا بأخبار الأمم السابقة، ومتكاملا في معانيه وأفكاره.
إن ما نزل على «محمد» لم يكن أمرا مألوفا لدى قومه، ولو كان مما ألفوه في حالات بشرية مماثلة لما انصرفوا إلى محاربة «محمد»، ولما طاردوا أتباعه وأنصاره، ولما آمنوا به من بعد، لا شك أن الوحي كان مما اعترف العرب بصدقه، وأدركوا أنه منهج الأنبياء، وهم لم ينكروا الوحي فقد كانت قلوبهم مؤمنة بصدق محمد، وإنما أنكروا ما تضمنته الدعوة الدينية من إدانة ما كانوا قد ألفوه من عقائد وعادات وقيم ومعاملات، فالدعوة التي جاء بها محمد كانت تبشر بعالم جديد، وتنادي بإقامة مجتمع على أسس جديدة، لا تفاضل بين أفراده بسبب المال أو النسب أو المنزلة الاجتماعية، وإنما يقع التفاضل بالتقوى، والتقوى خلق لا يحسنه الأقوياء ولا يلتزم به معظم الأغنياء، ولا يألفه الطغاة ممن استكبروا في الأرض بغير الحق، وأقاموا سياجا من القيم الفاسدة تحمي نفوذهم وتبرز مظالمهم.
وجاء الوحي على مراحل، ووصفت السيدة عائشة رضي الله عنها كيف بدأ الوحي، وقبل الوحي كانت الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، وفي غار حراء جاءه الحق، ملك يخاطبه لأول مرة.
- اقرأ.... قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله.
- اقرأ... قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله.
- اقرأ... قال: ما أنا بقارئ.. أخذه فغطه الثالثة ثم أرسله.
- فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق].
ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، ودخل على خديجة بنت خويلد، قال