وتخيل كذلك ما يثيره عندك «يروع» والصورة التى تركتها. وكلمة «العذارى» وموضع الفاء، التى تدل على هذه الحركة السريعة، الناشئة من الروعة، وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية، السيطرة على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره.
ولعل هذا هو السبب، فى أن علماء البلاغة، قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة؛ لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنها، فضلا عن أن تثير هذه الخواطر، التى تحيط بالكلمة إذا استعملت.
على أنه قد يشفع في بعض الأحيان، لاستخدام الكلمة الغريبة، أنها وضعت فى موضع، سهّل الأسلوب فهمها، وكانت هى بجرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقى:
خلوا الأكاليل للتاريخ، إن له... يدا تؤلفها درا ومخشلبا (١)
فهذا الجمع بين الدر والمخشلب، يوحى بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة، ما يوحى بأنها تعنى شيئا حقيرا.
والإحساس اللغوى عند الأديب هو الذى يختار اللفظ اختيارا دقيقا، بحيث يؤدى المعنى، على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات، ويأخذ من بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق.
سمع ابن هرمة أديبا ينشد قوله:
بالله ربك، إن دخلت، فقل لها:... هذا ابن هرمة، قائما بالباب
فقال له: لم أقل: «قائما»، أكنت أتصدق؟. فقال: «قاعدا»، فقال: أكنت أبول؟
قال: فماذا؟ قال: «واقفا» وليتك علمت ما بين هذين، من قدر اللفظ والمعنى (٢).
بل إن الإحساس اللغوى، قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحى به إلى الخاطر، كما تحس بذلك في كلمة «أرشف» من الشعر السابق، وكما اختار المتنبى كلمة «تفاوح» فى قوله:

(١) الوارد في المعاجم مخشلبة كلمة عراقية معناها خرز بيض يشاكل اللؤلؤ والحلى يتخذ من الليف والخرز.
(٢) الوقوف لا يقتضى الدوام والثبوت، أما القيام فيقتضيهما.


الصفحة التالية
Icon