التشريع والقصص والمواعظ والحجاج والوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقّة بل لقد ظلّت مستحيلة على الزمن لدى جميع من عرفنا وسمعنا بهم من فحول علماء العربية والبيان.
وبيان ذلك، أن المعنى الذي يراد عرضه، كلما كان أكثر عموما وأغنى أمثلة وخصائص، كان التعبير عنه أيسر وكانت الألفاظ إليه أسرع، وكلما ضاق المعنى وتحدد ودقّ وتعمق، كان التعبير عنه أشق وكانت الألفاظ من حوله أقل.
ولذا كان أكثر الميادين الفكرية التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة والبيان هي ميادين الفخر والحماسة والموعظة والمدح والهجاء، وكان أقل هذه الميادين اهتماما منهم وحركة بهم ميادين الفلسفة والتشريع ومختلف العلوم، وذلك هو السر في أنك قلّما تجد الشعر يقتحم شيئا من هذه الميادين الخالية الأخرى.
ومهما رأيت بليغا كامل البلاغة والبيان، فإنه لا يمكن أن يتصرف بين مختلف الموضوعات والمعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية من البراعة في معنى من المعاني، فإذا انصرف إلى غيره انخذل عن تلك الغاية ووقف دونها.
غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، وتقرأ بعد ذلك مقطعا في التشريع وأحكام الحلال والحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلا في أوج رفيع عجيب من الإشراق والبيان. وتنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها شامخة إليها.
ودونك فاقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلا بين مختلف معانيه وموضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول ولتلمس برهانه عن تجربة ونظر.
الخاصّة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم):
وثمة خاصّة ثالثة، لا تستطيع أن تجدها في غير هذا الكتاب العزيز.
وهي أن معانيه مصوغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على