هذا شيء...
وشيء آخر، هو أن من الخطأ في أصل النقد والبحث أن نحاكم القرآن في منهجه وأسلوبه، إلى ما تواضع عليه الناس اليوم، أو قبل هذا اليوم، أو إلى ما سيتواضعون عليه مع تطور الزمن- من طرائق البحث والتأليف وتنسيق المعايير.
فهذا الذي يتوافق عليه الكاتبون من تقسيم كتبهم إلى أبواب وفصول، ثم تضمين كل فصل منها لجملة معينة من الأبحاث والمعاني، ليس مردّه إلى أمر إلزامي أو مثل أعلى يفرض عليهم ذلك، وإنما الأمر فيه تابع للأغراض المتعلقة به، وهو في جملته عرف يعتادونه وطور يمرون عليه ويجتازونه بعد حين إلى غيره.
فما هي الحقيقة الثابتة التي تلزم كتاب الله تعالى بأن يسير في منهجه على طور من أطوار هؤلاء العباد وأن يتبع تنسيقهم الذي يضعون، أو أن تصنّف أبحاثه ومعانيه حسب المنهج الذي يشاءون؟!. هذا إلى أن المناهج- كما قلنا- تتناسخ والأساليب تتطور.
على أن الخاصّة تابع لحكمة عليا يدور معها المعنى القرآني كله، ذلك أن جملة ما في القرآن من مختلف المواضيع والمعاني الجزئية، إنما يدور جميعه على معنى كلّي واحد، هو دعوة الناس إلى أن يكونوا عبيد الله بالفكر والاختيار كما خلقهم عبيدا له بالجبر والاضطرار، وأن يدركوا أن أمامهم حياة ثانية بعد حياتهم هذه، وأن يستيقنوا ضالة هذه الحياة بالنسبة لتلك، في كلّ من خيرها وشرّها وسعادتها وشقائها.
فالقرآن شأنه أن يبثّ هذا المعنى الكلي الخطير من خلال جميع ما يعرضه من الأبحاث والموضوعات المختلفة من تشريع ووعد ووعيد وقصة وأمثلة ووصف؛ وإنما يتحقق ذلك بهذا النسق الذي جرى عليه من التداخل والتمازج في المعاني.
فهو حينما يبدأ بعرض قصة، لا يدعك تنسى- ولو في مرحلة من مراحلها- ذلك المعنى الكلّي الذي ذكرناه، فهو يمزجها بما ليس منها من تهديد أو وعد ووعيد أو نصيحة ووعظ، تحقيقا للغرض الذي من أجله تساق القصة،