ولك أن تسأل: ولكنك أوضحت آنفا عجز اللغة عن التعبير عن جميع المعاني والمشاعر، فكيف يتأتى للقرآن أن يسخر كلماته لما وراء الحدود التي تقف عندها طاقة اللغة ذاتها، وهو إنما يستعمل في تعبيراته اللغة ليس إلا؟؟
والجواب: أن القرآن يتناول- كما سترى- من الكلمات المترادفة أدقها دلالة، وأتمها تصويرا بالنسبة إلى نظائرها. فإذا استنفدت اللغة طاقتها ولا تزال بقية من المعنى أو الصورة شاردة وراء حدود اللغة، اتسعت لها الكلمة القرآنية وشملتها عن طريق ما تتسم به من جرس ووزن وإيقاع.
ولن تعثر مهما حاولت، على أي ضابط لهذا الجرس والوزن والإيقاع، مؤملا أن تطبقه في كلامك وتعبيرك. إنما هو الإحساس الذي يفيض به شعور القارئ عند تلاوته لهذه الكلمات أو سماعه لها مسبوكة مع بعضها، قائمة ضمن هيكلها القرآني الفريد.
فأغطش مثلا في قوله تعالى: أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها مساو من حيث الدلالة اللغوية لأظلم. ولكن «أغطش» تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة يستقل بها الوزن وجرس الأحرف متآلفة مع بعضها. فالكلمة بهذه الدلالة تعبّر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ فيه الركود وتجلّت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولست بحاجة- لفهم هذه الصورة من الكلمة- إلى وساطة لغة أو مراجعة قاموس وإنما هو إحساس ينبعث في نفسك من طبيعة الكلمة ووقع حروفها.
وكذلك «سكنا» من قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فهي من حيث الدلالة اللغوية مثل قولك: هدوءا، طمأنينة.. ولكن المعنى الذي تبثه في شعورك الكلمة القرآنية، لا تجد شيئا منه في غيرها مهما تساوى معها في أصل الدلالة اللغوية.
إن طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة «سكنا» مع توالي الفتحات على حروفها، تشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث الطمأنينة وينشر الأمن والراحة في أنحاء النفس. دون أن تحتاج في ذلك إلى معرفة أي دلالة لغوية.