ولا يمكن أن تنعكس هذه الظاهرة بحال من الأحوال، أي فلم تصادف أن تجد جماعة من الناس بدأت سيرها في طريق الرقي والحضارة بإرساء بناء قانوني متكامل لحياتها، بحيث جعلت منه منطلقها إلى الثقافة والرقي الاجتماعي والاقتصادي والعلمي. ذلك لأن الأمة التي لم تتقدم حضاريا بعد، والتي لا تزال تعيش في عهد البداوة وفي ظل الأعراف القبلية، ليس في حياتها الاجتماعية من التعقيد ما يشعرها بالحاجة إلى سن قانون ووضع تشريع. غير أنها تزداد شعورا بذلك، تدريجا كلما تقدمت حضاريا وازداد تركيبها تعقيدا.
غير أن الذي ظهر في الجزيرة العربية، قبل أربعة عشر قرنا، عكس هذا الذي أجمع عليه علماء القانون والاجتماع، وعرفه الناس من تجارب الأمم ووقائع التاريخ... فلقد ظهر فجأة بين تلك الجماعات الأميّة من أهل الجزيرة العربية، قانون متكامل يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية ويرسم العلاقات الدولية ويضع نظام السلم والحرب ويضبط آثارهما... كل ذلك، ولما تتعلم تلك الجماعات بعد شيئا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، ولما تأخذ بنصيب من العلم أو الحضارة والثقافة مما يعدّ خطوات أساسية لا بدّ من اجتيازها في طريق الوصول إلى المستوى الذي يوجد الشعور بالحاجة إلى وضع تشريع وقانون.
ففكّر ما طاب لك التفكير، هل تجد من حلّ لهذا اللغز العجيب، إلا في اليقين بأن الكتاب الذي حوى هذا التشريع. إنما أنزل وحيا من عند الله ولم يؤلّف من قبل أيّ بشر على وجه الأرض...
وإلا فأين المفر من أعجوبة لا يقبلها عقل أيّ مفكر: أن تؤلف قبائل تظلها حياة البداوة البدائية البسيطة قانون توثيق العقود، ونظام توزيع التركات والمواريث، وضوابط السلم والحرب ثم تمر الأجيال وتتطور الظروف والأحوال دون أن يشعر أي باحث منصف بأيّ موجب حقيقي لتغيير شيء من هذه النظم والأحكام، بل تعقد لدراسته المؤتمرات العالمية بعد مرور أربعة عشر قرنا من وجوده، وتطبيق المسلمين له، ويجمع أساطين الفقه والقانون على أعقاب هذه المؤتمرات- على اختلاف مللهم ومذاهبهم- على الأهمية البالغة لهذا