التدرّج في التفكير والتأمّل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى؛ وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامّة المفكرين والمتأملين والملهمين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة! وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغيّر اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكسها تماما.
إن صاحب الإلهام والإشراق النفسي والروحي، ليس من شأنه أن تتجسد إلهاماته أمام عينيه فجأة فيرتعد منها ثم يحسبها أتيّا من الجنّ.
ولقد فوجئ عليه الصلاة والسلام بالملك يخاطبه ويكلّمه، ولقد ارتجف خوفا منه وذهب في محاولة معرفته كل مذهب، حتى ظن أنه قد يكون من الجان، وذلك معنى قوله لخديجة (لقد خشيت على نفسي).
٢"- لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة؛ ولقد استبدّ به القلق والضجر من أجل ذلك، ثم تحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عزّ وجلّ قد قلاه، بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدّثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها.. إلى أن رأى بنفسه الملك الذي رآه في حراء وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض: يقول: يا محمد أنت رسول الله إلى الناس.
إن هذه الحالة التي مرّ بها محمد عليه الصلاة والسلام، تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا ضربا من الهوس والجنون. إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمكن أن يمرّ إلهامه أو تأملاته بشيء من هذه الأحوال.
وأنت إذا تأملت في هذا الذي ذكرناه، اتضحت أمامك الحكمة الإلهية العليا في أن يولد الوحي وتسير النبوّة في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم بهذا الشكل الذي ورد به الحديث.