فقد كان الله عزّ وجلّ قادرا على أن يربط على قلب رسوله، ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس؛ ولكن الحكمة الإلهية الباهرة تريد إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا مما قد نزل إليه من هذا الكتاب لم يطبخ في ذهنه مسبقا، ولم يتصور الدعوة إلى شيء منه سلفا.
غير أن هذا وحده لا يكفي جوابا على كل شيء في الموضوع. فقد يسأل سائل: فلماذا كان ينزل عليه صلّى الله عليه وسلّم الوحي بعد ذلك، وهو بين الكثير من أصحابه، فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟
والجواب أنه ليس شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن قوة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يكون الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله عزّ وجلّ- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى. ولعلك تعلم أن هنا لك ألوانا لا تراها كل العيون، وهنالك أيضا- كما يقول مالك بن نبي- مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون. فلقد توجد عيون أقل أو أكثر حساسية (١).
ثم إنك لو ذهبت تحلّل الوحي بأنه ظاهرة نفسية داخلية، لامتزج القرآن بالحديث، ولما أمكن أن يكون ثمة أي فرق بينهما، مع أن الفرق بينهما ظاهر واضح، يتمثل في أسلوب كلّ منهما ويتمثل في علاقته صلّى الله عليه وسلّم بكلّ منهما.
فقد كان يرسل ألفاظ الحديث إرسالا، مكتفيا بأن يستودعه ذاكرة أصحابه، على حين يأمر بتسجيل كل ما يوحى إليه من آي القرآن ويظل يكرره ويعيده خوفا من أن ينساه فلا يذكره.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن كثير من الأمور فلا يجيب عليها، وربما مرّ على