وجمعهم على مصحف واحد وحرف واحد، وخرّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه، أن يخرقه. فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها) (١).
ثم يقول: (فلا قراءة اليوم للمسلمين إلّا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)، وابن جرير بعد هذا الكلام يرد على اعتراض مفترض فيقول: (وكيف جاز لهم ترك قراءة أقر أهموها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمرهم بقراءتها؟) يجيب عن ذلك: (قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكلّ حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين) (٢).
وقد لاقى رأي الإمام الطبري معارضة قوية عند الأقدمين والمحدثين، وقد تكلم الزرقاني كلاما طويلا في الرد على من قالوا: إن الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل بها القرآن، أما الستة الأخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود البتة، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم، ثم حاولوا أن يؤيدوا ذلك، فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف الستة التي يقولون بضياعها نسخا ولا رفعا، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة أخرى، هي دعوى إجماع الأمة على أن تثبت على حرف واحد، وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستة، وأنى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟ هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة، وهي القول بأن استنساخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه، كان إجماعا من الأمة على ترك الحروف الستة، والاقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان

(١) جامع البيان ١/ ٢١.
(٢) جامع البيان ١/ ٢٢.


الصفحة التالية
Icon