وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (١)، هذا ليلهم، أما نهار الصحابة في المسجد، فكان يسمع لهم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا، ومن هنا كان عدد الحفاظ من الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا، أشهرهم الخلفاء الأربعة والعبادلة وعمرو بن العاص وابن الزبير ومعاوية وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة، وغيرهم من المهاجرين، ويكفي أن نعلم من كثرتهم أنه قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة مثلهم أي أربعون ومائة (٢).
أما الحفظة من الأنصار فهم كثيرون، أشهرهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو زيد (وهو قيس بن السكن).
يتضح لنا أن الحفاظ كثيرون، وقد زادوا على حد التواتر، ومع ذلك فقد أثار أعداء الإسلام- قديما وحديثا- شبهة مفادها أن الحفظة من الصحابة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتمسكوا بأثر رواه البخاري وغيره، وظنوا أن هذا مستمسك لهم، وما هو بذلك؛ وقد رد علماؤنا كيدهم إلى نحورهم.
أما الأثر فما ورد في صحيح البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: (مات النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (٣). فقد زعموا أن هؤلاء الأربعة هم الحفظة ولا أحد غيرهم ظنا منهم أن الحصر في هذا الأثر حصر حقيقي.
والواقع أن هذا الحصر نسبي لا حقيقي، ويدلنا على ذلك ما رواه أنس بن مالك نفسه، وقد سأله قتادة عن جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (٤).
(٢) هذه الأسماء قد وردت في أحاديث صحيحة. وانظر: المرشد الوجيز، لأبي شامة، ص ٤٠ - ٤٢.
(٣) صحح البخاري. كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ح (٥٠٠٤).
(٤) صحيح البخاري ح (٥٠٠٣).