نقول لهم: إن القرينة المخصصة للعموم موجودة، فبعد عشرين آية من هذه الآية وفي السورة نفسها ورد قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.. [النحل: ٦٤].
فلا يتم التفسير الصحيح ولا الفهم السديد إلّا بجمع الآيتين، لأن خير من يفسر القرآن هو القرآن ذاته.
فالبيان المطلوب من النبي صلّى الله عليه وسلّم هو توضيح ما خفي على الصحابة، وما استشكلوه واختلفوا فيه، وليس بمطلوب منه صلّى الله عليه وسلّم بيان ما لم يخف، فإن واقع أمر القرآن، وأمر ما نزل بلسانهم، أن فيه كثيرا من البيان، بل بديهة البيان بنفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان، فضلا عن أهله الخلّص، فلا يسيغ
بالمنطق مع هذا أن يقوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيان هذه الجليات.
أما استدلالهم بأن الصحابة كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يتعلموا ما فيها من العلم، فليس في هذا الأثر وجه لاستدلالهم على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسّر لهم جلّ القرآن كلمة كلمة وآية آية، لأن الأثر يحكي ما كان حال العلم وطلبه والاهتمام به والعمل بمقتضاه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالرجوع إليه صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالرجوع إلى اللغة.. قال القرطبي عن هذا الحديث: إنه حكاية ما كان عليه العلم وطلبه (١).
وقال المرحوم أحمد شاكر: فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير، فليس في الأثر ما يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر لهم جميع القرآن.
أما الدليل الثالث: فهو أن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله، فإن هذا الدليل العقلي لا يتعارض مع كون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيّن كلّ شيء تحتاجه الأمة، ولم يبين ما هو معروف بالضرورة وباللغة. ولا يمكن أن يشرح ما لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد من غير طائل، فيجب أن يتنزه عن ذلك من له أدنى حظ من سلامة العقل وسداد منطقه، فضلا عن الصحابة، عليهم رضوان الله، في سداد رأيهم ووفرة علمهم.

(١) القرطبي، ١/ ٣٩.


الصفحة التالية
Icon