بل تحداهم بسورة واحدة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: ٣٨].
هذه الآيات القرآنية المتحدية للبشرية، بل للإنس والجن معا، إنما تحدتهم، وما زالت تتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن نظما وبيانا، وهذا هو الوجه الذي أعجز العرب سابقا ولا حقا، وهم إذ عجزوا عن الإتيان بمثله فقد انتفى أن يكون القرآن من كلامهم، أو من كلام محمد، لأنه واحد منهم، علاوة على أنه ثبت لنا أحاديث شريفة قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن ينزل عليه، وبالمقارنة بين الكلامين نجد البون شاسعا، والفرق بعيدا بعد الفارق بين الخالق والمخلوق.
ويجدر بنا أن ننقل إليك كلمة الجاحظ في تجلية هذه الحقيقة إذ يقول: (بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجّة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حمله على حضهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه- إن كان كاذبا- بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيا!).
«فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات!! فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر... ولو تكلّفه (أي لو استطاعه) لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكايد فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض» (١).
(فدلّ ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستقامة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه