لقد أبعد الشيخ طنطاوي جوهري- رحمة الله- النجعة، ولم يتحقق له ما أمل أو أراد! لقد أصبح التفسير العلمي والإعجاز العلمي، قرينين أو شيئا واحدا في عرف كثير من الدارسين والباحثين، ورأوا فيه ميدانا ملائما للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحي يوحى، وأنه تنزيل من حكيم حميد، في الوقت الذي ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على «تذوق الإعجاز البياني للقرآن الكريم»... في الوقت الذي عدّ فيه هذا «الإعجاز الجديد» قادرا على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن، وأصحاب التقدم العلمي، يأتون في مقدمة من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز، أو بعبارة أدق: هذا السبق العلمي الباهر الذي جاء به القرآن الكريم قبل مئات السنين.
والواقع- والقول الحق- أن الإعجاز الحقيقي في هذا الجانب، أعني جانب الحقائق العلمية عن الكون والإنسان التي أشار إليها القرآن الكريم، يكمن في طريقة القرآن في التعبير عن هذه الحقائق، لا فيما سميناه تفسيرا علميا قد نخطئ فيه أو نصيب! لقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق على نحو يفهم خلال العصور! بمعنى أن أسلوب القرآن ونظمه وبيانه- الذي جعلناه مناط الإعجاز فيما سبق- اتسع للتعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في أيّ عصر، ولا يحمله كذلك أكثر مما يطيق، هذا هو وجه الإعجاز الحقيقي في هذه المسألة.
وغني عن البيان أنه ليس في مقدور أحد من الثقلين، أن يكتب بهذه الطريقة، أو يجيء بمثل ما جاء به القرآن، وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم فهم وفسّر خلال هذه العصور.
أما انفراد العصر الحديث- عصر الكشوف العلمية- بهذا اللون من ألوان الفهم، أو ألوان الشرح والتفسير، فيعود إلى أن إدراك المدلول (العلمي) أو الحقيقي للإشارات القرآنية المتعلقة بالطبيعة والإنسان، يتوقف على التجربة والعمل الإنساني، وعلى تطبيق المنهج القرآني في التعامل مع هذه الإشارات والظواهر، أو على الامتثال للأمر القرآني بالنظر والملاحظة والتجربة، وقد قصر المسلمون في الامتثال للمنهج العلمي الذي تضمنه القرآن الكريم ودعا إليه، بوصفه الطريق الصحيح للاكتشاف.