حزنه صلّى الله عليه وسلّم مرة أو مرات، حين تأخر عنه الوحي، فأقسم له مولاه ليطمئنه أنه ما ودعه ربه وما قلاه: وَالضُّحى ١ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ٢ ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: ١ - ٣].
إن نزول الوحي مرة، ومرات على فترات، يقوي من عزمه، وفيه مزيد العناية والرعاية والتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، مما يلقاه من هول ومصاعب تتعب نفسه، وهذا واضح وجلي في نزول القصص القرآني، القصة تلو القصة، ليأخذ منها العظة والعبرة، وإن شأنه مع أمته هو شأن الرسل عليهم السلام مع أممهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [هود: ١٢٠]. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.. [الأحقاف: ٣٥].
٢ - من حكمة تنجيمه في النزول تسهيل حفظه وامتثال أوامره وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: ١٠٦] على تمهل وتؤده، فيسهل حفظه لنزوله شيئا فشيئا، ووفق طريقة الصحابة الذين كانوا يتعلمون العلم والعمل معا، فهم يحفظون ويتعلمون ويعملون قولا وعملا.
٣ - لقد تكون المجتمع الإسلامي الأول عبر المراحل الزمنية المتتابعة والمتعاقبة، حسب الوقائع والأحداث والظروف التي كان يمر بها بين الحين والحين، ولم يتم هذا طفرة واحدة، وهذه سنن المجتمعات التي تقوم على غير طراز سبق.
فالمجتمع الإسلامي لم يتم تكوينه وتأسيسه بين عشية وضحاها، وإنما بدأ وتطور واستوى على سوقه عبر السنوات والأعوام، فقد بدأ بتأسيس العقيدة وكرائم الأخلاق، ثم شرع بالتشريع والأحكام في العبادات والمعاملات، ثم بيان الأحكام الدولية بعد تأسيس الدولة، كل هذا يتطلب مراحل زمنية متعاقبة، تنزل فيها الآيات تبعا للأحداث والوقائع المستجدة، لكل مرحلة من المراحل، وبذلك بني المجتمع لبنة لبنة.
ولنضرب لذلك مثلا في تحريم الله تعالى للخمر عبر المراحل الزمنية المتعاقبة.
فإن الخمر كانت أعجب شراب لدى العرب، وهي عند مدمنيها عادة مكينة صعبة الترك، وقد حاولت أمريكا من عشرات السنوات تحريم الخمر بتشريع واحد حاسم فعجزت، وأصبح تهريبها إلى عشاقها حرفة رائجة لعشرات العصابات، فعاد البرلمان الأمريكي إلى إلغاء الحظر السابق وإباحة الخمر لجمهور السكارى.


الصفحة التالية
Icon