والله عز وجل أحكم من أن يفطم عباده عن هذه الآفة بكلمة واحدة، فشرع لهم ما يبعدهم عن الشراب المحرم رويدا رويدا، حتى إذا تمهد الجو للصراحة الكاملة، والعقاب الشديد، أعلن الحكم الذي سبق الإيماء إليه، فاعتبرت الخمر رجسا، واعتبر شاربوها مجرمين، يضربون بالعصي وبالنعال.. !!
والآيات التي نزلت في صدد هذا التحريم هي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما.. [البقرة: ٢١٩].
وهذه بداية تؤذن بالخطر، فالقاعدة أن ما غلب شرّه خيره ترك، والشرائع العامّة والخاصّة تقوم على هذا الأساس. ونفع الميسر أن كسبه كان يرمى للفقراء، ونفع الخمر يجيء من الاتجار فيها، أو من النشوة الموقوتة التي تعقب تناولها، بيد أن هذه المنافع خفيفة الوزن إذا ما قورنت بالإضرار والآثام التي تصحب السكر والقمار.
ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. [النساء: ٤٣].
وهذه سياسة عملية واسعة المدى في تحريم الخمر، فإن الصلاة في الإسلام تكتنف الليل والنهار، ومعنى اليقظة التامة عند قربانها: أن الذين ما زالوا يستهينون بالشراب سوف يكفون عنه أغلب يومهم، كالذي تعود تدخين ثلاث علب من السجاير إذا فرض عليه أسلوب من الحرمان يباعد بينه وبين شهوته، فإن عدد ما يحرقه قد يهبط من ستين سيجارة إلى عشر أو ست.
وعند ما تبلغ الإرادة هذا الحد من القدرة والتسامي، فإن القرار الأخير بالحرمان يجيء في إبانه المناسب، وفي أحسن الظروف لتنفيذه، ومن ثم لم يمض كبير وقت حتى نزل النصّ الأخير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٩٠ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩٠ - ٩١].
وبعد مجيء هذا الإرشاد القاطع شقت بواطي الخمر، وكسرت دنانها، ورمي بها في طريق المدينة... وعلى هذا النحو حرم الربا عبر مراحل زمنية متعاقبة ما كانت لتتم لو نزل القرآن دفعة واحدة كما تقول عائشة: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة


الصفحة التالية
Icon