قال أبو سلمة، ثم حمي الوحي وتتابع (١).
هذا الصنيع الذي نهجه الإمام البخاري في سوقه روايات القصة عجيب، ولعله من أسرار جامعه التي لم يسبر غورها، فالقصة واحدة تدور رواياتها كلها حول موضوع واحد، والسائل في الروايات الثلاث الأولى واحد، وهو يحيى بن أبي كثير، والمسئول فيها واحد، هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والمجيب فيها واحد، هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
وفي الرواية الرابعة والخامسة لم يذكر يحيى بن أبي كثير، وإنما ذكر فيهما ابن شهاب الزهري مخبرا عن أبي سلمة بما حدثه به جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد استعصى على الباحثين تأويل هذه الأحاديث المروية عن جابر، فمنهم من أبقاها على التعارض، وجزم بخطإ جابر، كما ذهب إلى ذلك الإمام النووي الذي جازف فحكم على هذه الأحاديث الثابتة في صحيحي البخاري ومسلم بأنها باطلة، ومقام النووي في فضله وعلمه بالسنة النبوية، ودرجات الحديث صحة وضعفا، وورعه وفقهه في الدين كان يقتضيه التريث والتعمق في تطلب مخارج لهذا الحديث، وعدم بت الحكم في بطلان هذه الأحاديث، على أن للحديث مخارج تحميه من مثل هذه الأحكام المتسرعة، ومن العلماء من حاول الجمع بين حديث عائشة وحديث جابر.
ومن المحاولات الضعيفة في الجمع بينهما ما قاله الحافظ جلال الدين السيوطي في الإتقان من أن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ (٢).
وهذا القول يبطله ما ثبت في الصحيحين أن سورة المدثر لم تنزل بتمامها وكمالها بل نزلت متفرقة حتى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.
أما الكرماني فرد على حديث جابر قائلا: إن جابرا استخرج ذلك باجتهاده وليس من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة. وهذه أقوال لا تستند إلى دليل، ونحن إذا
(٢). ١/ ٦٩.