تأملنا الأحاديث نجد أن الأمر لا يدعو إلى الحيرة والدهشة، فالأحاديث قد قررت الحقائق التالية كما يقول أستاذنا محمد الصادق عرجون:
أولا: أن الروايات الثلاث الأولى كانت عن أول ما نزل من القرآن والجواب فيها كان من أبي سلمة بأن أول ما نزل، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وجاءت معارضة يحيى بن أبي كثير لأبي سلمة، بذكره له ما هو متداول عند أهل العلم بأن أول ما نزل من القرآن:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وبيان أبي سلمة بأن جابرا قد قال له مثلما قال، وساق له حديث تجلي جبريل وهو يناديه.
ثانيا: أن الرواية الرابعة والخامسة تفيد أن الزهري أخبره أبو سلمة وسمع منه ما حدثه به جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي، وقد جاء فيه «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس بين السماء والأرض».
ثالثا: أن جابرا رضي الله عنه لم يتعرض في حديثه إلى نفي أو إثبات أن قرآنا نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل فترة الوحي، ولم يتعرض في حديثه لأبي سلمة لقصة غار حراء قبل فترة الوحي، وما جرى فيها من أحداث كانت معروفة لأهل العلم من جمهور الصحابة، وما نزل فيها من أوائل سورة العلق.
ولعل جابرا لم يكن قد وصل إلى علمه شيء من قصة حراء، وما نظن أن أحدا يزعم أن كل صحابي يجب عليه أن يحيط بجميع جزئيات وقائع الوحي.
أو لعل جابرا رضي الله عنه كان على علم بقصة الوحي في غار حراء، ولكنه لم يجعلها بمعرض حديثه لأبي سلمة في الجواب عن سؤاله، لأن هذا الحديث كان في مناسبة خاصة، هي عودة الوحي بعد فترة ولا شك أن أول ما نزل حينئذ هو: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنْذِرْ، كما يدل عليه صراحة رواية الزهري بسنديها عن فترة الوحي.
وقد حسم ابن حجر العسقلاني هذه المسألة حسما حكيما وموفقا فقال: دل قوله عن «فترة الوحي» وقوله: «الملك الذي جاءني بحراء» على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، أو ما نزل، ورواية الزهري هذه صحيحة ترفع الإشكال (١).

(١) فتح الباري ١/ ٢٨.


الصفحة التالية
Icon