أقول: كون الحديث مرسلا أمارة كافية على ضعفه وعدم صلوحه للدلالة على أمثال هذه المطالب، لو استقل بنفسه، ولم يعارضه غيره، فكيف وقد عارضه غيره من حديث الشيخين السابق في أوائل هذا المبحث عن عائشة رضي الله عنها، والقاضي بأولية نجم العلق.
وبعد: فإنه لا يخفى عليك سقوط محاولة الجمع بينه وبين حديث الصحيحين، والتي حاولها البيهقي، إذ قال في النقل الآنف عنه من نص السيوطي (إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر).
أما أولا- فلأنه إنما تتحمل مئونة الجمع إذا صح الخبر المعارض لما هو مثله في الصحة أو أصح منه، والخبر هنا ضعيف لا وزن له.
وأما الثانية- فلأن في متن هذا الخبر شاهد ضعفه بل سقوطه بالكلية، أليس فيه الزعم بخشيته صلّى الله عليه وسلّم بسبب سماعه النداء إذا خلا وحده، بل بانطلاقه عند سماعه النداء هاربا، وأنه لم يثبت له إلا بعد أن نصح له ورقة بالثبات، فكيف يصلح هذا بأي وجه من الوجوه في عقل عاقل بعد ما قد عرف الوحي وتحقق من صدقه وحقيقته، وتمت له النبوة والرسالة جميعا بنزول نجمي العلق والمدثر معا على ما زعم هذا الجامع، فمن ثم كان الصواب كل الصواب في طرح مثل هذا الخبر بالكلية وراء
الظهر على مثل ما فعل الإمام النووي عليه الرحمة من إهماله وعدم المبالاة به أصلا، فقال، وصدق فيما قال في شرحه لمسلم: (وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر) (١).
وعلى الرغم من وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على ذي لب، أن ما بني عليه هذا القول من الشبهة هو بحيث لا يستقيم لا سندا ولا متنا.
نقول على الرغم من وضوح الأمر بالنسبة لهذا القول، فإن البعض من أهل هذا العصر، وأعنى بهذا البعض الأستاذ الإمام محمد عبده قد اقتدى بالزمخشري، ولنورد لك الآن قوله بتمامه على ما نقله عنه تلميذه الأخص صاحب المنار والذي لم ير-

(١) ج ٢، ص ٢٠٨.


الصفحة التالية
Icon