على خلاف عادته- موافقة قول أستاذه للصواب، أو قل قد رأى بالفعل مجانبة أستاذه للصواب. فقال رحمه الله في أول تفسير الفاتحة: وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أن الفاتحة أول ما نزل على الإطلاق: ولم يستثن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله:
ومن آية ذلك: أن السنة الإلهية في هذا الكون- سواء كان كون إيجاد أو كون تشريع- أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيا، وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها، ثم تنمو بالتدرج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها، ثم تجود عليك بثمرها. والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف، كقولهم إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان.
بعد هذا الكلام المبهم، أخذ الإمام يفسر سورة الفاتحة إلى أن قال:
إن سورة الفاتحة مشتملة على ما اشتمل عليه القرآن، فلا بدّ أن تكون هي الأولى في النزول بمكة (١).
القول الرابع: ما ذكره السيوطي في الإتقان قال: وأخرج الواحدي بإسناده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وقد ردّ أستاذنا الشيخ عبد الوهاب غزلان على كلام السيوطي قائلا: «ويندفع كلام السيوطي بأن الأحاديث الصحيحة التي روي فيها نزول صدر سورة العلق لم يرد فيها ذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو قول ضعيف، ولضعفه أعرض عنه الزركشي، فلم يذكره، ولم يشر إليه، وكذلك لم يذكره النووي في شرح مسلم ولم يشر إليه عند ما ذكر الأقوال في أول ما نزل من القرآن» (٢).

(١) انظر تفسير المنار لسورة الفاتحة، ج ١ ص ١٣، ٣٥ - ٣٨.
(٢) البيان ص ٨١ وما بعدها، ومنة المنان في علوم القرآن ج ٢ ص ٣٥٣ - ٣٥٤.


الصفحة التالية
Icon