والثاني: عن قتال المسلمين لا عن الكفر.
فعلى القول الأول الآية محكمة، والثاني يختلف في المعنى؛ فمن المفسرين من يقول: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ لم يأمركم بقتالهم في الحرم، بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها، فلا يكون نسخ أيضا. ومنهم من يقول: المعنى اعفوا عنهم وارحموهم، فيكون لفظ الآية لفظ خبر، ومعناه: الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم، وهذا منسوخ بآية السيف.
ذكر الآية التاسعة عشر
: قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: ١٩٤] اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخ أم لا على قولين:
الأول: أن فيها منسوخا
. واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين:
الأول: أنه قوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قالوا: وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر في ذي القعدة فصدّه المشركون عن أداء عمرته فقضاها في السنة الثانية في ذي القعدة (١). فاقتضى هذا أن من فاته أداء ما وجب عليه بالإحرام الذي عقده في الأشهر الحرم أنه يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشهر الحرام، ثم نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أي وقت شاء، إما في مثل ذلك الشهر أو غيره، قال شيخنا علي بن عبيد الله: وممن حكي ذلك عنه عطاء.
قلت: وهذا القول لا يعرف عن عطاء ولا يشترط أحد من الفقهاء المشهورين على من منع من عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشهر.
والثاني: أنه قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٩٤].
ثم اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا نزل بمكة، والمسلمون قليل ليس لهم سلطان يقهرون به المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه؛ نسخ ما كان تقدم من ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢).

(١) انظر «أسباب النزول» للواحدي (ص ٥٥ - ٥٦) و «تفسير الطبري» (٣/ ٥٧٦).
وأخرج القصة الطبري (٣/ ٥٧٥ - ٥٧٦/ ٣١٣٠) عن ابن عباس؛ بإسناد ضعيف جدا.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (١/ ٣٢٩/ ١٧٤٠).
وإسناده ضعيف، علي بن أبي طلحة؛ قال عنه الحافظ في «التقريب» (٤٧٨٨): «أرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق قد يخطئ».


الصفحة التالية
Icon