وإنما هناك فروق دقيقة في المعاني، تؤديها الصور عبر الأنساق التي تقتضيها، وهذا يؤكد ما قلناه، ونقوله دوما، بأن الصورة القرآنية تعتمد على نظام العلاقات في التعبير والتصوير معا.
ففي سورة المزمّل، لم يرد ذكر لوصف القيامة سوى رجفة الأرض والجبال، وجوّ السورة يوحي بالثقل والتأني، فجاء تصوير الجبال بالكثيب المهيل للإيحاء بقوة الرجفة للأرض، المؤثّرة في الجبال الثابتة، فتصبح رمالا متحركة، ويمكن اعتبار هذه الصورة، هي المرحلة الأولى لزوال الجبال يوم القيامة، ثم في سورة المعارج، نلاحظ ذكرا لعذاب الكافرين وطوله، فاقتضى السياق تصويرها بالعهن، لبيان تأثير ذلك اليوم في الصورة الحسيّة الصلدة، ثم تأتي الزيادة في الوصف «العهن المنفوش» لبيان ألوان الجبال، لكي تتناسق مع ألوان الفراش المبثوث. وفي سورة الواقعة نلاحظ تصويرا لشدة أهوال القيامة وما فيها من خفض ورفع، ورجّ الأرض وبسّ الجبال، فاقتضى هذا السياق تصويرها بالبهاء المنبث، وهو أضعف من العهن، ثم في سورة النبأ تصوّر بالسراب، يحسبه الناظر شيئا وهو لا شيء في حقيقة الأمر أي أن الجبال تزول ولا يبقى لها أثر. أمّا في الصور المتقدمة، فتثبت لها وجودا ضعيفا، فصورة الكثيب المهيل هي المرحلة الأولى في زوالها، حيث تؤثر رجّة الأرض فيها فتضعف من تماسكها، وتجعلها رمالا متحركة غير متماسكة، تتبعها صورة العهن الضعيفة الملونة، ثم تتبعها صور تناثرها كالهباء في الهواء، حتى تصبح في النهاية سرابا لا وجود لها، فهي صور متدرّجة، ترسم مراحل زوال الجبال بدقة وعناية. من خلال السياق الذي يقتضيها، حتى تكوّن في النهاية صورة متكاملة لها.
فالصورة القرآنية كما اتضح من صورة الجبال المتعددة- صورة نامية، متفاعلة، مترابطة، وليست صورة مجزأة، مفصولة، عن سياقها، أو عن الصور الأخرى.
ويصوّر الإيمان والهدى بصور النور والبصر والحياة، ويصوّر الكفر والضلال بصور الظلمات والعمى والموت وهي صور حسية مدركة، تتناسق مع الغرض الديني من التصوير.
يقول تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الرعد: ١٦، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فاطر: ١٩ - ٢٢.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ،


الصفحة التالية
Icon