لذلك، لا بدّ من جمع الصور ضمن أنساقها الواردة فيها، والكشف عن تواصلها وروابطها، لكي نتبيّن دور كل صورة في نقل المعنى الديني ضمن مفهوم وحدة الفكر، ووحدة التصوير معا. ويصوّر عهد الله وميثاقه بصورة «الحبل» الحسية، يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها آل عمران: ١٠٣.
وقوله هنا وَاعْتَصِمُوا من قبيل ترشيح الصورة بالاعتصام، لأن الاعتصام، من المعاني المرتبطة بالحبل، والمعنى الذهني هنا ترسمه الصورة بالأيدي المتمسكة بعهد الله ودينه ومنهجه، والقلوب المتآلفة المتوحّدة على منهجه بعد أن كانت أشتاتا وفرقا، وذكر القلوب هنا له دلالته، وذلك للإيحاء بالروابط الروحية التي هي أساس الروابط الاجتماعية، ثم ترسم الصورة حالهم قبل الإيمان حين كانوا عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقذهم الله من السقوط فيها. حين هداهم إلى التمسك بحبل الله الممتد، فتمت لهم النجاة من السقوط المرتقب في النار.
وقريب من هذا قوله تعالى في تصوير اليهود ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ آل عمران: ١١٢.
تصوّر هنا الذلة والمسكنة بقبة مضروبة عليهم، لإفادة الإحاطة والشمول لهم، فهم لا يستطيعون الانفكاك منهما إلا بحبل من الله، وحبل من الناس، وذكر الحبل يتناسق مع صورة القبة المضروبة عليهم، ولكن التعبير لا يذكر القبة صراحة، وإنما يرمز لها بقوله «ضربت» للإيحاء بها.
وأحيانا لا يذكر «الحبل» صراحة في التصوير، وإنما يذكر شيء من لوازمه وهو «النقض» زيادة في إخفاء الصورة، لإثارة الخيال، وتنشيطه كقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ البقرة: ٢٧.
يقول الزمخشري في جمال هذه الطريقة التصويرية: «وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روافده، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه» «٨».