فالصورة الحسية للنشوز، تعبر عن عصيان المرأة وتعاليها، فتأتي بعدها الصورة الكنائية، في الهجر في المضاجع، لتطامن من هذا التعالي الناشز، وتحدّ منه.
وتعبر الصورة الكنائية عن كثير من المعاني الحياتية كقوله سبحانه وتعالى في وصف عيسى وأمه مريم: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ المائدة: ٧٥، فقوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كناية عن فضلات الطعام، لإثبات بشرية عيسى، ونفي الألوهية المزعومة عنه، ولكن الكناية لا تمنع أيضا من إرادة المعنى الأصلي. يقول الزمخشري في تفسيره للآية: «... ثم صرّح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم... كبقية الأجسام» «١٠».
وقوله سبحانه في هذا المعنى أيضا ولكن بصورة كنائية أخرى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ النساء: ٤٣، والغائط أصله ما انخفض من الأرض، والعرب تعبّر عن قضاء حاجتها بهذه الكناية، وقد وردت هذه الكناية في سياق الطهارة أما قوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فقد وردت الكناية في سياق إثبات بشرية عيسى وأمه، وهكذا نلاحظ أن الاختلاف في الصور عن المعنى الواحد، يتبع السياق، ويتلاءم معه.
كقوله تعالى أيضا: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ المعارج: ٣٩، فالكناية هنا عن الماء المهين، تلمس كبرياء المشركين لمسا خفيفا دون ذكر لفظة نابية، وقد وردت هذه الكناية ضمن سياق يقتضيها، فقد تحدث السياق عن استكبار المشركين، وطمعهم أن يدخلوا الجنة، وهم على كفرهم، فجاءت هذه الكناية، لتوحي بهوانهم وذلّهم، مقابل استكبارهم وكفرهم.
وتعبر الصورة عن معنى التوجه إلى الله، والانقياد له ب «الوجه» لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وهو رمز الكل بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ البقرة: ١١٢، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ... النساء: ١٢٥، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لقمان: ٢٢.
فالتصوير بالوجه عن الذات فيه حثّ على التوجه إلى الله، والإقبال عليه، والتطلع إلى

(١٠) الكشاف: ١/ ٦٣٥.


الصفحة التالية
Icon