بينهما، فالصورة تمثّل وحدة منسجمة، تتواصل الصور في داخل السياق ضمن نظام العلاقات، عن طريق التقابل أو التناظر أو التجاور في التعبير، حتى يتمّ بذلك نموّ المعاني الدينية وتفاعلها، فتكوّن في النهاية وحدة الرؤية الإسلامية للكون والحياة والإنسان.
ويعبّر عن التواضع بصورة خفض الجناح، وهي تقابل تصعير الخد تكبّرا، ولكن صورة خفض الجناح صورة محبّبة، أمّا تصعير الخد، فصورة مكروهة منفرة. يقول الله تعالى:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء: ٣١٥. فهذه الصورة الحسية، تجسّم معاني الرفق واللين والتواضع، لتكون محسوسة حاضرة في الأذهان دائما، ويلاحظ تناسق هذه الصورة الحسية، مع المعاني الذهنية المجردة، فالجناح هو وسيلة الارتفاع والانخفاض معا، وخفض الجناح يوحي بالهبوط والنزول من مكان مرتفع، لأن الطائر يضمّ جناحيه في لحظة الهبوط، ويخفضهما في حالة الارتفاع والطيران، يبسط جناحيه، ويحركهما، وهذه الصورة متناسقة مع صورة المتواضع، وصورة المتكبر معا، في حالتي الهبوط والارتفاع للطائر. فالمتكبّر، يرتفع ويتعالى، ويبسط جناحيه، ويحرك أطرافه للارتفاع والتعالي، وهي صورة الطائر في حالة الارتفاع والتحليق، والمتواضع يخفض جانبه للناس، ويضم أطرافه، في حركة متناسقة مع صورة الطائر، وقت هبوطه، وخفض جناحيه...
وهكذا تكشف الصورة عن حقيقة الإنسان، وما في نفسه من مشاعر متقابلة، وخطوط متوازية، ففيه استعداد للتكبّر والتعالي، وفيه أيضا استعداد للتواضع ولين الجانب، ومن خلال هذا التقابل بين الصورتين، تتّضح المعاني الحميدة، والمعاني الذميمة، ويتم توجيه الإنسان التوجيه الديني المطلوب، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى في حضّ الأبناء على خفض الجناح للوالدين: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً الإسراء: ٢٤.
وترد هذه الصورة للدلالة على معنى آخر غير التواضع، ولكن في سياق مختلف أيضا كقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الأنفال: ٦١.
وتصوير ميلهم إلى السلام ب «الجنوح» صورة معبّرة، تتواصل مع صورة خفض الجناح وإيحاءاتها، فلا يكفي في السلام مجرد ميلهم الداخلي، ما لم يتحول هذا الميل إلى واقع حي ملموس، يتمثّل في خفض الجناح، ولين الجانب. وهو ما توحي به صورة «الجنوح»