تواصل الخروج، ويشتد الكرب، وتصوّر شدّته بحركة التفاف الساق بالساق، على طريقة القرآن في تصوير المعاني، وهذه الروح تواصل الخروج وكأنّها تسير في طريق معلوم محدد، تساق إليه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ فعنده ينتهي المطاف والمساق. ويتكرّر هذا المشهد في سياق آخر مع لمسة نفسية في قرب الله منه في تلك الساعة، مع تصوير عجز الناس عن مساعدته، لتكون صورة قرب الله منه، تقابل صورة بعد الناس عنه، وعجزهم أمام خروج الروح: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ الواقعة: ٨٣ - ٨٥، فالصورة توحي بالشدة واليأس والذهول، كما توحي بعجز البشر، عن إيقاف الروح المتجهة إلى ربّها، وتصوير الحضور الإلهي في هذه اللحظة، يضفي على الصورة رهبة وجلالا وتأثيرا في النفس. وإذا كانت نهاية الإنسان هي الموت، والمساق سيكون إلى الله وحده، فيجب الاهتمام بأمر العقيدة، وتربية الأبناء عليها وتوريثها للأجيال. وقد عبّرت الصورة عن توريث العقيدة، وكأنها شيء مادي محسوس يورّث للأبناء، في مشهد يعقوب حين حضرته الوفاة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ البقرة: ١٣٣.
وفي هذه الآية يجسّم الموت في صورة حسية، فيصوّر كأنه غائب، ينتظر قدومه في أي لحظة، فهو يحضر إلى يعقوب بعد غياب عنه، وهنا يبدأ تصوير مشهد الموت ليعقوب، ويعتمد التصوير على الحوار، لإحياء المشهد والزيادة في تأثيره وإيحائه. ويعرض فيه يعقوب مهتما بأمر العقيدة، فيحاور أبناءه في شأنها، ليطمئن على غرسه من بعده، فيكون جوابهم أنهم سيسيرون على خطا أبيهم، وأجدادهم في الالتزام بها.
هذه الصور للموت، ليست منفصلة بعضها عن بعض، بل هي صور مترابطة، متواصلة، فكل صورة ترسم معنى يتعلق به، وتزيد الصورة الثانية على الأولى بعض اللمسات الفنية والنفسية، لتحقيق التأثير الديني، الذي هو غاية التصوير، ثم تأتي الصورة الثالثة، لتوضّح ضرورة الاهتمام، بتربية الأبناء على العقيدة، والاطمئنان عليهم قبل الموت. فالمعاني الذهنية، لا تعرض مجردة بأسلوب مباشر، وإنما يعبّر عنها بالصورة المحسوسة، لتكون أبلغ في التأثير في المتلقي. حتى القرآن الكريم، تخلع عليه الصفات الإنسانية على طريقة التصوير