فهذه الصورة تعبّر عن هدوء موسى بعد ثورة الغضب، ولكنّ تصوير المعنى بالسكوت، له مغزاه، وإيحاؤه. فالتصوير لا ينقل المعنى فحسب، وإنما يرصد أيضا ما يصاحب الغضب من حركات وأصوات. ومن ذلك أيضا قوله تعالى في تصوير الروع يذهب ويجيء: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ هود: ٧٤.
فالصورة هنا تجعل الروع حيا شاخصا، يذهب ويجيء، وكذلك البشرى، كما كان هناك الغضب يصرخ ويسكت، ويثور ويسكن. إنها صور حية شاخصة، تتحوّل فيها المعاني إلى أشخاص يثورون ويغضبون، ويهدءون، ويذهبون، ويروحون، علي طريقة القرآن الكريم في إحياء المعاني في الذهن والخيال، ليتفاعل الإنسان معها على أنها أشخاص حيّة، وليست معاني ذهنية مجردة.
وقد تقترن مع التصوير للمعاني الحركة واللون أيضا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: ٤، فالمعنى المراد، أنه كبر في السن وشاب، لكن المعنى الذهني يعرض في صورة حسية موحية ومؤثرة، فيها حركة الشيب في الرأس، مصوّرة من خلال حركة اشتعال النار، وهي حركة بطيئة متدرّجة، حتى تعمّ الرأس كلّه، كما تعمّ النار الأشياء المشتعلة، وفيها اللون أيضا، فلمعان الشيب يشبه لمعان النيران، فهذه الصورة الحسية، ترسم دقائق المعنى وتفاصيله في لونه وحركته وشموله للرأس كله.
وتكثر الصور الحسية المستمدة من الأوزان والأحجام والأثقال لتجسيم المعاني الذهنية، لأنها صور مألوفة لها وقعها في النفس حين توضع في أنساق تقتضيها. كقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا المزمّل: ٥، فثقل القول صورة مجسّمة تحيل المعنى الذهني إلى شيء محسوس، ليصبح التكليف المعنوي، ثقيلا ملموسا.
كذلك يعبّر عن يوم القيامة وهو زمن معنوي بصورة حسية ذات وزن وثقل يقول تعالى:
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا الإنسان: ٢٧، وهذه الصورة تعبّر عن شدّة ذلك اليوم، وثقله على النفوس، فهو ليس يوما عاديا وإنما هو يوم موزون بالأثقال لشدته وأهواله.
وتتواصل هذه الصورة في السياق القرآني، بصيغ مختلفة، للتعبير عن المعاني الذهنية المتعددة. كقوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ